fbpx
الرئيسيةحقوق

الصندوق الأسود في ليبيا يخفي تجارة مزدهرة

آلاف المهاجرين عالقون في شبكة معقدة من المؤسسات الرسمية، والميليشيات، والمتاجرين بالبشر، التي يشارك فيها أيضًا الاتحاد الأوروبي. غيث واحد من هؤلاء.

غيث (اسم مستعار لحماية هويته)، دفع الشاب ثمن حريته ثلاث مرات:

المرة الأولى كانت لموظفي أحد مراكز احتجاز المهاجرين في العاصمة الليبية طرابلس. الثانية كانت لميليشيا اختطفته أثناء محاولته الهروب إلى أوروبا. أما المرة الثالثة فكانت لمجموعة من الرجال المسلحين الذين ابتزوه ورفاقه في الرحلة. كل ذلك حدث في ليبيا، التي تُعدّ واحدة من أخطر الأماكن على المهاجرين. 

في أقل من ثلاثة أشهر، بين يوليو وسبتمبر 2024، عاش هذا الشاب السوري كابوسًا: احتُجز في مستودع مكتظ يُعرف بالمخزن، اعترضته قوات خفر السواحل الليبية في عرض البحر، سُجن في ظروف غير إنسانية، ثم بيع لميليشيا، وبعدها نجا من غرق سفينة ليُحتجز ويُباع مرةً أخرى.

خلال هذه الفترة، تابع معدو هذا التحقيق الصحفي من مجلتي “بيننا” التي أسسّها لاجئون سوريون في إسبانيا، و “5W” الإسبانية، رحلة غيث في غرب ليبيا، وهي منطقة تخضع لسيطرة شبكات معقدة من الميليشيات والجماعات الإجرامية التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع السلطات في طرابلس. تجسد قصته الكابوس الذي يعيشه عشرات الآلاف من الأشخاص في ليبيا، وتسلط الضوء على الدور المظلم الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في هذا السياق: دولة فاشلة ومنقسمة، تحكمها حكومتان متوازيتان — إحداهما في غرب البلاد، ومعترف بها رسميًا، والأخرى في الشرق ومعترف بها بشكل غير رسمي — تحظى فيها المليشيات والعصابات على سيطرة واسعة.

استثمر الاتحاد الأوروبي مئات الملايين من اليوروهات والدولارات في ليبيا لتطبيق ما يُسمى بـ “إدارة الهجرة”، أي لوقف تدفق الأشخاص مثل غيث. متغاضيًا عن الانتهاكات التي يتعرضون لها هناك، من ابتزاز وسرقة وخطف وتعذيب. تمامًا كما حدث مع هذا الشاب، فقد واجه آلاف المهاجرين في العام الماضي الذين تم اعتراض طريق هجرتهم مرارًا وتكرارًا على السواحل الغربية لليبيا أثناء محاولاتهم الوصول إلى أوروبا. الهدف الرئيسي من معظم هذه الاعتراضات لم يكن إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، بل استغلالهم ماليًا: إنها التجارة المستمرة للهجرة في ليبيا.

في عام 2024 وحده، تم اعتراض أكثر من 21,700 شخص انطلقوا من السواحل الليبية عبر البحر الأبيض المتوسط وأُعيدوا إلى ليبيا، وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية (في حين كان العدد في العام الذي سبقه نحو 17,000). معظم الذين تم اعتراضهم كانوا رجالًا، لكن بينهم أيضًا أكثر من 700 طفل وحوالي 1,560 امرأة. في الوقت نفسه، انخفضت بشكل كبير أعداد الوافدين إلى الاتحاد الأوروبي عبر البحر من ليبيا: ففي النصف الأول من عام 2024، وصل إلى السواحل الإيطالية حوالي 25,000 شخص قادمًا من ليبيا، مقارنة بأكثر من 67,000 شخص خلال نفس الفترة من العام السابق. وعلى عكس عام 2023، الذي كانت فيه معظم عمليات الانطلاق من شرق ليبيا، فإن معظم القوارب التي تحمل المهاجرين في عام 2024 انطلقت من غرب البلاد.

تكشف نتائج هذا التحقيق عن المدى الذي وصلته عمليات الاعتراض في المياه الغربية الليبية والإعادة غير القانونية للمهاجرين إلى الأراضي الليبية. كما تبرز إفلات الميليشيات والجماعات الإجرامية من العقاب، وتؤكد الحقيقة المؤلمة أنهم يعملون بمعرفة وتنسيق مع الحكومات والسلطات الأوروبية التي تواصل التفاوض وتمويل شبكة معقدة تحاصر حياة الآلاف من الأشخاص.

رحلة غيث (1): من حلب إلى طرابلس

غيث، البالغ من العمر 26 عامًا، وُلِد في حلب (سوريا). أعدنا بناء تفاصيل رحلته من خلال الرسائل والمكالمات الهاتفية التي بدأت في يوليو الماضي، حين كان في غرب ليبيا محاولًا الهروب نحو أوروبا. كان لا يزال هناك بضعة أشهر قبل سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، ما فتح آفاقًا جديدة للأشخاص الذين كانوا يحاولون الهروب من بطشه.

مثل آلاف آخرين، هرب غيث وعائلته في عام 2014 من الحرب التي دمّرت البلاد. كان في السادسة عشرة من عمره حين غادروا بلدتهم منبج بريف حلب الشرقي. لجأوا إلى لبنان المجاور، الذي كان يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة. كان هناك حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة، وكان يُنظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية. كانوا يُحمَّلون كل المشاكل التي يعاني منها لبنان. هذه الظروف الصعبة دفعته في 2016 للعودة إلى سوريا، لكن في ذلك الوقت كان تنظيم الدولة الإسلامية قد سيطر على مدينته إذ كان يرغم الشباب على للالتحاق في صفوفه للجهاد.

بعد أن كان المشهد في مدينته على هذا الحال، عاد غيث إلى لبنان مجددًا.

تحت ضغط صعوبة العثور على عمل —حيث كان قد تخصص في ميكانيك الشاحنات— وكذلك التمييز وتهديدات الترحيل، قرر غيث المغامرة والذهاب إلى أوروبا. لتأمين ثمن الرحلة التي كان يرى بها حلمه، باع منزله في منبج مقابل 10,300 دولار.

وقال: “الأسعار هناك منخفضة بسبب الصراعات المستمرة بين قوات سوريا الديمقراطية والجيش السوري الحر المدعوم من تركيا”.

كان لدى غيث سبعة إخوة أصغر منه وأبوين. كان يحلم أن يؤمن مستقبلهم عند الوصول. اختار الشاب أن يسلك واحدة من أكثر الطرق شيوعًا وبشكل خاص بين السوريين: الطريق التي تمر عبر ليبيا، وهو الذي يعتبر الرئيسي للهجرة نحو الاتحاد الأوروبي من شمال إفريقيا.

تمكن من الوصول إلى مدينة صبراتة الساحلية في أقصى غرب ليبيا، وهي نقطة انطلاق شهيرة للمهاجرين. وفي هذا الجزء من قصته، بدأت بعض الأسماء التي تشكل جزءًا من شبكة تهريب البشر في ليبيا بالظهور: تواصل غيث مع أحمد الدباشي، الزعيم المحلي المعروف بـ”العمّو”. كانت مجموعة هذا الرجل من اللاعبين الرئيسيين في عمليات تهريب المهاجرين في صبراتة، وأيضًا، خاصة في عامي 2016 و2017، واحدة من أكبر موانئ الانطلاق نحو إيطاليا وبقية أوروبا.

ارتبط اسم أحمد الدباشي في عام 2017 بالسلطات الإيطالية، حيث أفادت تقارير صحفية أنه أبرم اتفاقًا سريًا مع تلك السلطات لوقف تدفق المهاجرين عبر سواحل ليبيا. وكان قد تحوَّل من مهرّب إلى “حارس” ضد تهريب البشر. علاوة على ذلك، وقعت مجموعة الدباشي عقدًا لتوفير الأمن لمصفاة النفط والغاز التي تديرها شركة إيني الإيطالية في مليتة، على بعد 25 كيلومترًا فقط من صبراتة.

سفينة دورية تابعة لخفر السواحل الليبي تحمل الرقم 267 تبحر في منطقة البحث والإنقاذ بين ليبيا وإيطاليا. وفي عام 2017، أفادت منظمة هيومن رايتس ووتش أن قارب الدورية هذا جعل من الصعب إنقاذ بعض القوارب التي تحمل مهاجرين. البحر الأبيض المتوسط، يوليو 2017. آنا سورينياش

في ليبيا المتقلّبة، تتداخل المصالح السياسية والاقتصادية بشكل معقد، حيث يصبح جميع الأطراف مترابطين بشكل وثيق.

**

قصة غيث تروي كيف أن الدباشي ومجموعته، التي كانت في لحظة ما “حُراسًا” ضد تهريب البشر، لا تزال مرتبطة بأعمال تجلب لها دخلًا كبيرًا. من خلال هذه العائلة، قاموا بتنظيم رحلة غيث إلى أوروبا وقدموا له التعليمات اللازمة.

— يروي الشاب: “أقمت في مخزن مع أكثر من مئتي شخص من جنسيات مختلفة لمدة ثلاثة أسابيع”.

في هذا المكان المكتظ، انتظر غيث أن تتحقق الوعود بأنهم سيُخرجونهم قريبًا ليتم إرسالهم على متن قارب إلى أوروبا. لكن الأيام كانت تنقضي بسرعة، ومر اليوم الذي وعدوه فيه دون أن يحدث شيء.

— “قررت أن أرحل وأبحث عن مهرب آخر”.

في محاولته الثانية، اتصل بوسيط يُعرف بلقب “الذئب الدرعاوي”، نسبةً لمدينته، درعا جنوب سوريا. عبر الهاتف، اتفق غيث معه على دفع 5500 دولار مقابل الرحلة إلى أوروبا. ثم انتظر في منطقة عين زارة في ضواحي طرابلس حتى يتم تجهيز كل شيء.

لكل مهاجر ثمنه

نأخذ استراحة قصيرة من رحلة غيث لنتنقل إلى أوروبا: هنا يعيش منذ عدة أشهر الناشط الليبي طارق لملوم، أحد أبرز المتخصصين في أوضاع السجون في بلاده. اضطر لمغادرة ليبيا في عام 2024 بسبب الضغوط والتهديدات، ويقيم الآن في مدينة أوروبية يفضل عدم الكشف عن اسمها لأسباب أمنية. يبلغ من العمر 48 عامًا وهو من مدينة بنغازي، درس في مجال الخدمات الاجتماعية ومنذ عام 2011 -عام الربيع العربي- وهو ناشط في الدفاع عن حقوق المهاجرين في ليبيا، خاصة أولئك الذين يقبعون في السجون. في عام 2012 أسس جمعية “بلادي” لتقديم الدعم القانوني للمعتقلين في السجون الليبية.

الناشط الليبي طارق لملوم. إيزابيل بيرموي / 5W

— يقول بينما يشاركنا فنجانًا من القهوة في منزله: “سرعان ما اكتشفنا أن أكثر الفئات ضعفًا واحتياجًا كانت تلك المهاجرة المسجونة”. من بنغازي، بدأت الجمعية التي أسسها لملوم بتوسيع نشاطاتها إلى غرب البلاد، وأنشأت تحالفات مع مؤسسات دولية لممارسة المزيد من الضغط على من يديرون السجون. ونجح في ذلك لدرجة أنه اضطر إلى مغادرة البلاد من أجل الحفاظ على حياته، وهو الآن يدير أنشطة “بلادي” من أوروبا.

في أنحاء ليبيا كافة، هناك العشرات من السجون ومراكز الاحتجاز التي يُنقل إليها المهاجرون الذين يتم إرجاعهم من السواحل. يقول: “كل عام تبرز واحدة من هذه السجون بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب فيها”. يذكر سجونًا مثل عين زارة في طرابلس، الذي تديره وزارة الداخلية، أو مركز احتجاز شهداء النصر والمعروف بين أوساط المهاجرين بـ “سجن أسامة” في مدينة الزاوية.

كان هذا المركز تحت سيطرة وزارة الداخلية، لكنه لم يعد معترفًا به رسميًا ضمن ولايتها. الآن، تسيطر عليه ميليشيا تُسمى “أسامة” – ومن هنا جاء اسم السجن – بالتعاون مع وحدة خفر السواحل في المدينة. أصبح مركز الاحتجاز هذا نقطة محورية لصفقات مربحة تدور حول ابتزاز المهاجرين الذين يتم اعتراضهم وزجّهم هناك.

— يشير لملوم إلى أنّ “كل من يدخل هناك يجب أن يدفع من أجل الخروج”.

في السجون ومراكز الاحتجاز الليبية يتم تحديد ثمن المهاجرين أو الإفراج عنهم وفقًا للبلد الذي ينحدرون منه. يفضّل الخاطفون الأشخاص السوريين أو من بنغلاديش على المهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية، لأن الأولين يدفعون مقابل خروجهم بينما لا يملك المهاجرون من دول جنوب الصحراء دائمًا المال الكافي.

— يوضح الناشط: “من يأتون من مصر، الصومال، إريتريا أو إثيوبيا يُطلب منهم مبالغ أقل لإطلاق سراحهم. أما الأشخاص من الجنسية السورية والبنغلاديشية فيُطلب منهم دفع ما بين 1,500 إلى 2,500 دولار”. يتم الدفع عادةً عبر التحويلات الداخلية أو يُطلب من العائلات أو الوسطاء إرسال المال عبر دول ثالثة مثل تركيا. في السنوات الأخيرة، بدأ المسؤولون في السجون يطالبون بالدفع نقدًا، سواء بالدينار الليبي أو بالدولار، خوفًا من تتبع المدفوعات.

مركز آخر من مراكز الاحتجاز الذي اكتسب سمعة سيئة هو ما يُعرف بـ”سجن المايا”، الذي يخضع لسيطرة “الكتيبة 55”. يقع هذا المعسكر في منطقة ورشفانة، ويُفترض أنه تحت سلطة وزارة الدفاع، لكنه عمل لسنوات دون أي تفويض رسمي، وفقًا للناشط. أُنشئ هذا المركز من قبل مجموعة قبلية يقودها معمر الضاوي، القائد الحالي للكتيبة.

— يقول لملوم: “قاموا بإنشاء هذا المعسكر، وحصلوا على أسلحة ثقيلة، وللأسف زار كل من رئيس الحكومة الليبية وعدد من الوزراء هذا المكان عدة مرات، مما منحهم شرعية”.

اسم معمر الضاوي، مثل أسماء آخرين متورطين في انتهاكات حقوق المهاجرين، معروف جيدًا لدى المنظمات الدولية: تقرير مفصّل من الخبراء قدم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أغسطس 2023 ربطه بانتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان في مراكز الاحتجاز. حسبما ذكر التقرير فقد “كان المسؤول المباشر عن الأفعال التي ارتُكبت ضد المهاجرين المحتجزين تحت سيطرته الفعلية” في مراكز “تنتهك القانون الدولي الإنساني”. كما يتضمن شهادات لـ21 ناجيًا يروون حالات من “سوء المعاملة الشديد والظروف غير الإنسانية بشكل مفرط” في تلك المراكز: الجوع الشديد، نقص المياه الصالحة للشرب، الاكتظاظ، الأمراض أو التعذيب. وفي الخفاء، تدر هذه المراكز مبالغ ضخمة من الأموال.

خريطة مراكز الاحتجاز الرئيسية في غرب ليبيا. تصميم خافيير سانشيز

رحلة غيث (2): الزورق 660

نعود إلى ليبيا. في السادس من أغسطس، بينما كانت أنظار نصف أوروبا متجهة نحو متابعة الألعاب الأولمبية في باريس، بدأ غيث رحلة جديدة في غرب البلاد:

— “غادرنا مكان الإقامة في عين زارة بسيارة حيث كنا ثمانية أشخاص ووصلنا إلى مدينة الزاوية، وهناك وضعونا في مبنى مهجور مع حوالي 80 شخصًا آخرين. كانوا من جنسيات سورية وسودانية وعراقية ومصرية. عند الساعة العاشرة ليلًا، نقلونا جميعًا بشاحنة إلى ميناء صغير في المدينة نفسها”.

في ذلك الميناء في الزاوية، كان ينتظرهم قارب. صعدوا على متنه، وأبحر بعد ساعة. بخلاف شهادات المهاجرين الآخرين التي تتحدث عن محاولات سرية للهروب تحت جنح الظلام بعيدًا عن أعين السلطات، أبحر قارب غيث أمام الجميع وبكل وضوح. بل أكثر من ذلك وفقًا لروايته، ساعدت سلطات الزاوية في تسهيل انطلاقه.

— يروي غيث: “أبحر القارب برفقة زورقين من خفر السواحل لتوفير الحماية لنا”.

مع بزوغ الفجر، عادت الزوارق المرافقة من الزاوية أدراجها، ليواصل القارب رحلته وحده. لكن، بعد ساعات قليلة، توقفت الرحلة فجأة.

— “حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، رصدتّنا طائرات استطلاع. وبعد ساعتين تقريبًا، وصل زورق من خفر السواحل في طرابلس”.

انتهت المحاولة الثانية لغيث للوصول إلى أوروبا في تلك اللحظة، حيث اعترض خفر السواحل التابع لطرابلس القارب واحتجزهم.

لكن كيف يمكن تفسير أن وحدة من خفر السواحل الليبي تعترض قاربًا أبحر تحت حماية وحدة أخرى من خفر السواحل الليبي؟ خلف هذه المفارقة تكمن مرة أخرى تعقيدات المشهد الليبي: خفر السواحل الليبي هو قوة بحرية تخضع لسلطات متفرقة ومتنافسة حيث كانت وحدة الزاوية، المرتبطة بتجارة البشر والتهريب، تعمل بشكل مستقل عن القيادة المركزية في طرابلس.

يُعتبر خفر السواحل الليبي الفاعل الرئيسي في مراقبة الحدود البحرية، حيث تحوّل من أسطول ضعيف في عام 2017 إلى قوة تمتلك زوارق حديثة، تم التبرع بالعديد منها من قبل إيطاليا لدعم ما يسمى بـ”إدارة الهجرة”.

في وضح النهار، ارتكب هذا الجهاز البحري انتهاكات موثقة لحقوق الإنسان، شملت إطلاق النار وتهديد قوارب الإنقاذ، واصطدام قوارب مطاطية تحمل مهاجرين، واعتراضهم، وإعادتهم بشكل غير قانوني، وابتزازهم.

كانت وحدة خفر السواحل في مدينة الزاوية تحت قيادة عبد الرحمن ميلاد، المعروف بـ”البيدجا”، الذي يُعتبر واحدًا من أكبر تجار البشر في العالم.

في الأول من سبتمبر الماضي، قُتل البيدجا رميًا بالرصاص في العاصمة طرابلس. ولا تزال التحقيقات جارية للكشف عن ملابسات الجريمة، مع وجود عدد من المشتبه بهم قيد الاحتجاز. وُضع البيدجا على قائمة عقوبات الأمم المتحدة منذ عام 2018 بسبب تورطه في تجارة البشر. كما اتهمه تقرير للأمم المتحدة، نُشر عام 2017، بشكل مباشر بـ”إغراق قوارب المهاجرين باستخدام الأسلحة النارية”.

في ظل قيادته، لم تكن هذه الوحدة تابعة للقيادة العامة في طرابلس، بل كانت تعمل تحت مظلة “جهاز دعم الاستقرار”، وهو جهاز أمني مثير للجدل أنشأته الحكومة في عام 2021، وضمّ عدداً من الميليشيات من طرابلس والزاوية.

أجبر خفر السواحل، الذين أوقفوا رحلة غيث، المهاجرين على الصعود إلى زورق الدورية، ويتذكر غيث بوضوح الرقم الكبير المكتوب عليه: 660.

بحث بسيط على الإنترنت يكشف العديد من الإشارات إلى زورق ليبي يحمل الرقم 660، وغالبًا ما يُذكر في سياق عمليات مثيرة للجدل في البحر الأبيض المتوسط. يُعرف هذا الزورق باسم “أوباري 660″، وهو زورق تم منحه لليبيا من قبل إيطاليا في أكتوبر 2018، إلى جانب 11 زورقًا آخر (زورق دورية إضافي وعشرة قوارب صغيرة)، ضمن إطار اتفاقية التعاون بين البلدين للحد من الهجرة غير الشرعية، التي وُقّعت قبل ذلك بعام.

وقد وجهت منظمات مثل “سي ووتش” اتهامات ضد “أوباري 660″، بسبب تورطه في عمليات إعادة غير قانونية مباشرة للمهاجرين، فضلاً عن تهديده وحتى إطلاق النار على قوارب الصيد الإيطالية. بالإضافة إلى ذلك، أكدت منظمات أخرى مثل “سي آي” أنها تلقت تهديدات من نفس زورق الدورية.

هذا الدور يسلط الضوء على تورط خفر السواحل الليبي في عمليات لا تقتصر على اعتراض المهاجرين، بل تتجاوز ذلك إلى انتهاكات تهدد حياة المهاجرين وحقوقهم الإنسانية، مما يثير تساؤلات مستمرة حول التعاون الدولي الذي يدعم هذه القوة المثيرة للجدل.

ما حدث بعد اعتراض زورق أوباري 660

يروي غيث كيف تعامل طاقم زورق الدورية أوباري 660 بعد اعتراض قاربهم: “قاموا بتفكيك محركات قاربنا وأخذوا أشياء ثمينة، مثل أجهزة تحديد المواقع (GPS)، والهواتف الفضائية، وسترات النجاة، والطعام والماء ثم أضرموا النار في القارب”.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل جرد طاقم الزورق المهاجرين من الأموال الأجنبية التي كانت بحوزتهم، حيث بلغت إجمالي المبالغ حوالي 10,000 يورو.

عندما أرسلنا لغيث صورًا لزورق أوباري 660 الذي تبرعت به إيطاليا لليبيا، أكد أن هذا هو الزورق الذي اعترضهم، بل وشاركنا لقطة شاشة حدد فيها الموقع الدقيق على سطح الزورق حيث جلس أثناء إعادتهم إلى السواحل الليبية.

رسا زورق أوباري 660 على شاطئ تاجوراء في طرابلس، حيث سلّم خفر السواحل غيث وبقية المجموعة إلى مسؤولي جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، الذين نقلوهم إلى سجن بئر الغنم جنوب غرب العاصمة.

يصف غيث ما حدث عند وصولهم: “خضعنا لتفتيش دقيق للغاية، وتمت مصادرة كل ما تبقى لدينا من مقتنيات”. وبعد ثلاثة أيام في السجن، علم الشاب أن الطريقة الوحيدة للخروج كانت دفع مبلغ 2,400 دولار.

عملية الدفع كانت تتم من داخل السجن عبر مكالمة على تطبيق واتساب: في كل مهجع كان هناك هاتف مخصص لهذه الغاية، يُتاح لكل محتجز إجراء مكالمة واحدة فقط لطلب المال من العائلة أو الأصدقاء. يصف غيث السجن بأنه “مسلخ حقيقي”.

— “كان الطعام نادرًا جدًا، ولم يكن هناك مكان للنوم. الحرارة خلال النهار كانت خانقة، بينما كان البرد القارس ليلاً يجعل النوم مستحيلًا”.

يرى غيث أن الهدف من إبقائهم في تلك الظروف المزرية كان لإجبارهم على دفع الفدية.

سجن بئر الغنم يُعتبر أحد أبرز مراكز الاحتجاز المعروفة باحتجاز المهاجرين وإطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية. وهو جزء من شبكة تضم 14 سجنًا رسميًا موزعة في مناطق مختلفة بغرب ليبيا، مخصصة للمهاجرين وطالبي اللجوء. وفقًا لبيانات جمعية بلادي لحقوق الإنسان، مرّ بهذا المركز خلال عام 2024 ما لا يقل عن 800 شخص من جنسيات متعددة.

من دون أثر

على الرغم من كل شيء، يستطيع غيث سرد قصته: هو جزء من المهاجرين الظاهرين في ليبيا، أولئك الذين يتركون أثراً، الذين يتواصلون مع عائلاتهم أثناء رحلتهم. لكن هناك فئة أخرى تتحمل عائلاتهم عبئًا أكبر بكثير: فئة المفقودين. فقط بين أكتوبر ونوفمبر 2023، خلال هذه التحقيق، تمكنا من تحديد ثلاث مجموعات كاملة من المهاجرين السوريين الذين اختفوا في ليبيا في ظروف غامضة ودون أن يتركوا أي أثر. كان جميعهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط في طريقهم إلى أوروبا.


— “إذا كان أحد يعرف شيئًا، فهو المهرب. هل يمكن لأحد التحدث معه؟”
— “لا يرد على أحد.”
— “هل هناك جديد؟”
— “لا شيء جديد. وعدنا بعض الناس بمحاولة الحصول على معلومات من أماكن مختلفة.”
— “يقولون إنهم في قاعدة عسكرية تركية في الخمس.”
— “القاعدة في الصحراء، ليست في الخمس…”

تتوالى الرسائل في مجموعة على واتساب التي تمكنا من الوصول إليها. تم إنشاؤها من قبل عائلات نحو ثلاثين مهاجرًا سوريًا اختفوا في 31 أكتوبر 2023 دون أن يتركوا أي أثر. المتحدثون هم آباء، إخوة، وأعمام… في ظل غياب القنوات الرسمية، أصبح تبادل المعلومات عبر واتساب الأمل الوحيد للعديدين للعثور على أحبائهم.

آخر خبر وصل لعائلات المجموعة المفقودة كان أن المجموعة كان من المفترض أن تغادر من مدينة الخمس الساحلية متوجهة إلى إيطاليا. بعد ذلك لم تصل أي معلومات. في الأشهر التالية تتابعت الإشاعات المتناقضة: قيل أنهم تم اعتراضهم في البحر وتم إعادتهم إلى ليبيا؛ أنهم محتجزون في بئر الغنم؛ أنهم وصلوا إلى إيطاليا وهم في السجن هناك؛ أنهم محتجزون في مالطا؛ أنهم في تركيا؛ أنهم في سجن على جزيرة يونانية… 

خلال هذا التحقيق، حاولنا التحقق من كل واحدة من هذه الادعاءات، بحثنا عن هويات الأشخاص المفقودين — غالبيتهم من الشباب، وبعضهم قُصّر — وتواصلنا مع صحفيين، ونشطاء، ومنظمات، وموظفين في الدول المذكورة، بما في ذلك المسؤولين في وكالة فرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل)، دون العثور على أي أثر للمفقودين. حتى أننا تحدثنا مع وسطاء متورطين في تنظيم الرحلة غير النظامية لهؤلاء الشباب: لم نجد أي إشارة قاطعة حول مصير هذه المجموعة.

الدليل الوحيد كان مقطع فيديو نُشر على صفحة فيسبوك تُعنى بالمهاجرين، يظهر فيه جواز سفر لأحد المفقودين، وهو وائل الجلم. كانت الوثيقة قد وُجدت على شاطئ مصراتة، على بعد حوالي 90 كيلومترًا من الخمس، حيث تم العثور على خمس جثث هامدة، في حالة سيئة للغاية، أدى تحلّلها إلى صعوبة التعرّف عليها. اتصلت السلطات المحلية وممثلو المجتمع السوري في المنطقة بعائلات الشاب وأرسلوا لأحد أقاربه صورًا للجثة التي كانت الأقرب إلى صاحب جواز السفر.

— “لم أستطع التأكد إن كانت هي، حتى أنني لا أرى تطابقًا بنسبة 30 بالمئة. الجثة في حالة سيئة ولونها داكن، بينما كان لدى وائل بشرة فاتحة”، يقول ابن عمه. “الآن، أرى صورة تلك الجثة على الجدران، على الوسادة، بجانبي وأنا نائم.”

لا يوجد لدى فرونتكس أو منظمات مثل Alarm Phone، التي تستقبل مكالمات الطوارئ على طرق الهجرة البحرية المختلفة، أي تسجيل لحادث غرق في المنطقة يتوافق مع تاريخ مغادرة المجموعة. كما لم يتم العثور على جثث أو أي دلائل أخرى على مصير هذه المجموعة؛ وحتى اليوم، ما زالت عائلاتهم تعيش مع عبء عدم اليقين.

— يقول طارق لملوم:”قضية المفقودين معقدة جدًا في ليبيا. منذ أكتوبر [2023] تواصل معنا العديد من العائلات والنشطاء المعنيين بقضايا الهجرة لإبلاغنا عن قوارب مفقودة”.

كان لملوم يحاول العثور على مجموعة الثلاثين مفقودًا في 31 أكتوبر 2023، لكن لم يُعثر على أي أثر لهم.

— “استبعدنا إمكانية أن يكونوا قد تم اعتراضهم ونقلهم إلى السجن، لأنه في تلك الحالة كانوا قد تواصلوا مع عائلاتهم بعد ثلاثة أيام لطلب المال أو كان قد تم الإعلان عن ترحيلهم.”

لا يستبعد الناشط أن يكون القارب قد غرق دون أن يتم العثور عليه على الرغم من عدم وجود أدلة تشير إلى ذلك. هناك احتمال أكثر فزعًا، إذا صح القول، وهو أن المهاجرين قد تم قتلهم في مواجهة بين الميليشيات.

— “لقد حدث هذا من قبل في منطقة تسمى العجيلات، في غرب ليبيا، حيث نشب خلاف بين عدد من مهربي البشر، وأطلق أحدهم النار على الأشخاص المحتجزين في مستودع وقتل عدة منهم.”

في مارس 2024، تم العثور على مقبرة جماعية تحتوي على جثث ما لا يقل عن 65 مهاجرًا في جنوب ليبيا. تعتقد المنظمة الدولية للهجرة أنهم ربما فقدوا حياتهم أثناء تهريبهم عبر الصحراء. أكدت السلطات أنها ستقوم بالتحقيق في القضية وأوضحت أنها أخذت عينات من الحمض النووي، على الرغم من أن الجثث تم دفنها بسرعة دون نشر المزيد من التفاصيل. لا تزال هوية من يرقدون في تلك القبور غير معروفة.

رحلة غيث (3): بيع إلى ميليشيا

نعود إلى سجن بئر الغنم في طرابلس وقصة غيث: بعد ثلاثة أيام، دفع الشاب المبلغ المطلوب والبالغ 2400 دولار لاستعادة حريته.

بعد خروجه من السجن، تواصل مع وسيط آخر يُدعى “ح.ك.”، وهو أيضًا من سوريا. في مقابل 6000 دولار، وعده الرجل بتنظيم انتقاله إلى أوروبا. في 24 أغسطس، أرسل “ح.ك.” سيارة مع سائق نقلته إلى نزل صغير بالقرب من البحر في منطقة تسمى صرمان، غرب الزاوية.

عند سرد غيث لتلك الحادثة، أرسل لنا صورًا التقطها بهاتفه المحمول وقدم لنا جميع التفاصيل: مواصفات السيارة، اسم السائق، الموقع الدقيق للنزل على خرائط جوجل، وتفاصيل عن مالكه. في نفس النزل كان يقيم زوجان شابان من الجنسية السورية. كانت الزوجة حاملاً، وكانا قد اتفقا مع “ح.ك.” على دفع المبلغ مقابل السفر إلى أوروبا.

— في اليوم التالي، 25 أغسطس، عند الساعة العاشرة مساءً، قال لنا مالك النزل إن الوقت قد حان، وأخذنا في سيارته، وهي من نوع كيا، إلى قاعدة محمية تحتوي على العديد من سيارات تويوتا لاند كروزر المدرعة. كانت تحمل شعار كتيبة أو ميليشيا على الأبواب مكتوب عليها كلمة “عائشة”.

عند المدخل، كان هناك عشرة رجال يرتدون زيًا أسوداً ووجوههم مغطاة، أخذوا هواتفنا المحمولة ونقلونا إلى مستودع كبير يحتوي على ذخائر وعدد من سيارات تويوتا المدرعة الجديدة، بالإضافة إلى سيارة بي إم دبليو جديدة أيضًا. قدم أحدهم نفسه على أنه محمد وقال: “الرحلة ستكون في الساعة الرابعة صباحًا”. لكن تلك الساعة مرت دون أن يظهر أحد.

— “في الساعة السادسة صباحًا، بدأنا في الصراخ وضرب الباب دون جدوى حتى الساعة الثامنة مساءً”، يتذكر غيث. في النهاية، “جاء محمد وأعطانا بعض الماء والطعام. أخبرنا أننا مُختطفون وأن فدية إطلاق سراحنا هي 15,000 دينار ليبي [حوالي 2,900 يورو] لكل شخص”.

أعطى محمد لهم هاتفًا محمولًا ليتمكنوا من التواصل مع شخص يتفاوض على دفع الفدية نيابة عنهم. اتصلوا بالوسيط الذي نظم رحلتهم، “ح.ك.”، لكنه نفى معرفته بأي من الثلاثة.

استمر هذا الاختطاف لمدة تسعة أيام: كانوا ينامون على الأرض دون مرتبة أو بطانية أو حمام. كان يأتي عامل سوداني كل ليلة بصحبة أحد الخاطفين، مغطى الوجه ومسلح ببندقية آلية، لكي يستطيعوا الذهاب إلى الحمام. كانوا يتلقون القليل من الماء والطعام مرة واحدة فقط في اليوم.

— “كنا نسمع طوال الوقت صرخات أشخاص آخرين، وبكاء نساء، وضربات على الأبواب، نهارًا وليلًا”. سألوا العامل السوداني عن مصدر هذه الأصوات، فأخبرهم أن هناك عدة مجموعات مختطفة.

في النهاية، تمكن الزوجان اللذان كانا مع غيث من دفع فدية قدرها 40,000 دينار ليبي [حوالي 7,700 يورو] نيابة عنهم إلى الكتيبة. ولم يعرفوا أي شيء عن المهرب الذي أرسلهم إلى هناك بعد ذلك.

— حاولت مرات عديدة الاتصال بـ “ح.ك.”، ولكن دون جدوى. في النهاية، أدركت أنني كنت في بلد بلا قانون أو حكومة. منطقة مليئة بالعصابات والميليشيات والمرتزقة.

وفقًا لتقرير حديث قدم أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أغسطس، وهو الوقت الذي كان يسرد فيه غيث لنا قصته، كان هناك حوالي 3500 شخص محتجزين في مراكز احتجاز غير رسمية في طرابلس (المباني وتاجوراء) وفي مناطق أخرى من شمال غرب ليبيا (بما في ذلك النصر أو أسامة، بئر الغنم، وادي الحياة، النيوت، والزاوية).

وكان هؤلاء قد انضم إليهم أكثر من 5000 شخص محتجزين في السجون “الرسمية”.

أموال الاتحاد الأوروبي

تمكنت العصابات والميليشيات من تكوين نفوذ هائل غرب ليبيا في السنوات الأخيرة، لدرجة أن أذرعها تداخلت مع العديد من المؤسسات الحكومية، حتى أن الفروق بين ما هو رسمي وغير رسمي أصبحت ضبابية في كثير من الحالات، بما في ذلك في إدارة الهجرة ومراكز الاحتجاز. إن الاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي وحكومة طرابلس تساهم في تعزيز هياكل وعمليات هذه الميليشيات.

يتم توجيه معظم المساعدات الأوروبية إلى ليبيا المرتبطة بـ “إدارة” الهجرة عبر إيطاليا. وكانت حجر الزاوية لهذه التعاونات، التي منحت الميليشيات ولقوات خفر السواحل المتورطة في العديد من الانتهاكات سلطات كبيرة، هي مذكرة التفاهم الخاصة بالهجرة الموقعة بين إيطاليا وحكومة طرابلس في 2 فبراير 2017. وثيقة لا تتجاوز ثلاث صفحات، لكن على تلك السطور القصيرة يرتكز الجدار غير المرئي الذي يحتجز عشرات الآلاف من المهاجرين في ليبيا في ظروف قاسية. ومنذ أن دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ، تتجديد المذكرة بشكل تلقائي كل ثلاث سنوات.

حساب المجموع الإجمالي للأموال التي أرسلها الاتحاد الأوروبي وإيطاليا إلى ليبيا على شكل “مساعدات” على مر السنين مهمة معقدة، حيث يتم توجيهها عبر مؤسسات متعددة وتقسيمات مالية متعددة. ومن خلال ما يسمى بـ “صندوق الطوارئ لأفريقيا” (FFEA)، الذي تم إنشاؤه في 2015، تلقت ليبيا أكثر من 455 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي — الذي يعد أيضًا شريكها التجاري الرئيسي — إضافة إلى مبالغ أخرى عبر مجموعة من آليات التمويل الأوروبية: فقط خلال الفترة من 2021-2027، كان الاتحاد الأوروبي قد تعهد بتقديم 90 مليون يورو أخرى على الأقل.

تم توجيه المبالغ المقدمة من FFEA في الأصل لتحسين “إدارة الهجرة” في القارة الأفريقية. لكن المحكمة الأوروبية للمراجعات أصبحت بشكل متزايد تنتقد هذا الصندوق. ففي تدقيق أجري في سبتمبر الماضي، اتهمت المحكمة، من بين أمور أخرى، أن صندوق FFEA “لا يتعامل بشكل شامل مع خطر انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان المستفيدة” وأنه يتمتع بنهج “مبعثر” وقليل الاستراتيجية.

رحلة غيث (4): الغرق 

حتى شهر سبتمبر، كان غيث يرسل لنا رسائل بشكل منتظم، ولكن ابتداءً من ذلك الشهر انقطع التواصل معه لعدة أيام. كانت آخر رسالة منه بتاريخ 7 من ذلك الشهر، وفيها قال إنه سيحاول تلك الليلة الإبحار مجددًا نحو إيطاليا. لم نتلقَ أي أخبار جديدة حتى ستة أيام لاحقة. 

وهذا هو روايته لما حدث خلال تلك الأيام: في ليلة 7 سبتمبر، استطاع الصعود على متن قارب يضم عشرين شخصًا آخرين، من بينهم خمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين 12 و16 عامًا. كان ستة من الركاب سوريين، بينما كان الباقون مصريين. أما قائد القارب ومساعده فكانا من السودان. يقول غيث إن القارب لم يكن مُحمَّلاً بأكثر من طاقته، لكن البحر كان في حالة سيئة جدًا. 

—”بعد نصف ساعة من الإبحار، ضربتنا أول موجة. ثم جاءت موجة ثانية ملأت القارب بالماء. أما الموجة الثالثة فكانت شديدة جدًا وقلبت القارب رأسًا على عقب.”

لحسن الحظ، أنقذهم قارب صيد كان قريبًا وأبلغ خفر السواحل. وعند وصولهم إلى الشاطئ، سلمهم الصيادون إلى خفر السواحل. هؤلاء. يقول غيث، “كالعادة” أخذوا منهم الهواتف وكل ما كانوا يحملونه. بعدها نُقلوا إلى سجن أسامة في مدينة الزاوية. يضيف: “سجن أسامة هو مكان مرعب ومخيف. إنه أسوأ من بئر الغنم. قذارة، جرب، قمامة، وروائح كريهة. الزنزانة كانت بمساحة 4 أمتار مربعة فقط، وكنا أكثر من ثلاثين شخصًا فيها”.

لم يبقَ غيث طويلًا في هذا الجحيم؛ فبعد 24 ساعة فقط من وصوله، جاء عدد من الرجال المسلحين وتفاوضوا مع مسؤولي السجن، ودفعوا مبلغًا من المال لنقل المحتجزين، وهم يعلمون أنهم يمكنهم الحصول على فدية مقابل إطلاق سراحهم. 

في الواقع، كان هذا نموذجًا جديدًا من “تصدير” الانتهاكات في السجون الليبية. بعد إخراجهم من السجن، تم نقلهم إلى منزل، وفقًا لما ذكره الشاب.

—كانوا يأتون ويصرخون: “من يريد الدفع والخروج؟”:

أعطى أحد أفراد الميليشيا هاتفًا لغيث ورفاقه ليتمكنوا من إجراء اتصالات لترتيب الفدية. اتصلوا بالوسيط الذي كان قد نظم رحلتهم في القارب الذي غرق. “الوسيط أرسل شخصًا بسيارة توقفت في الشارع. الشخص الذي اشترانا من سجن أسامة أخذنا إلى هناك بسيارة أخرى. نزل السائق ودفع للسائق الذي جاء لاصطحابنا مبلغ 1,700 دولار عن كل شخص. ثم عاد إلينا وقال: ’اذهبوا‘”.

بهذه الطريقة استعاد غيث حريته مرة أخرى. لكن، في المجموع، ومنذ وصوله إلى ليبيا، دفع حوالي 7,000 دولار كفدية، بالإضافة إلى الأموال التي دفعها لتنظيم رحلة إلى أوروبا لم تكن قد اكتملت حتى تلك اللحظة.

السقوط في الفوضى

استسلم المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا، السنغالي عبد الله باتيلي، في أبريل الماضي، للأمر الواقع. بعد تسعة عشر شهرًا من توليه رئاسة البعثة في ليبيا، قدم استقالته قائلًا أمام مجلس الأمن: “في الظروف الحالية، لا توجد طريقة لنجاح الأمم المتحدة في العمل”. وأضاف أن هناك “غيابًا للإرادة السياسية وحسن النية”. وكان باتيلي قد خلف السلوفاكي يان كوبيش، الذي استقال هو الآخر قبله دون تقديم أسباب واضحة.

في الظاهر، كانت مهمة الأمم المتحدة في ليبيا تهدف إلى دعم عملية انتقال سياسي تُمكِّن من إجراء انتخابات وطنية وبرلمانية. لكن الشعب الليبي لم يذهب إلى صناديق الاقتراع منذ عام 2014، حين أدت انتخابات مثيرة للجدل إلى الانقسام الحالي في البلاد. وفي خطابه الأخير كممثل للبعثة الليبية، حذر باتيلي قائلًا: “ليبيا تغرق أكثر وأكثر في الفوضى”. وأضاف: “من المحبط رؤية أشخاص في مواقع السلطة يقدمون مصالحهم الشخصية على احتياجات بلدهم”.

منذ رحيل باتيلي، ظل منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا شاغرًا.

من جهته، لم يوقف الاتحاد الأوروبي تعاونه مع السلطات الليبية. تدفق الأموال والمعدات لا يزال مستمرًا، ويتم تبريره، من بين أمور أخرى، باعتباره أداة لإنقاذ الأرواح في البحر.

رحلة غيث (5): أوروبا

لم تمنع معاناة غيث من الغرق ودفع الفدية للمرة الثالثة عزيمته من الاستمرار. كان الخوف من الوقوع في شرك الفوضى الليبية دافعًا كافيًا ليعيد المحاولة من نقطة البداية في رحلته: سواحل صبراتة، الواقعة على بعد 75 كيلومترًا تقريبًا من طرابلس، والتي يسيطر عليها عشيرة الدباشي.

كرر غيث العملية من جديد: تواصل مع وسيط، دفع المبلغ المطلوب، واستقل قاربًا آخر نهاية شهر سبتمبر، برفقة 27 شخصًا. كان آخر ما أرسله لنا عبر تطبيق “واتساب” من السواحل الليبية مجرد كلمة واحدة، بداية لجملة لم تُكمل: “أنا”…

لكن هذه المرة، لم تكن هناك زوارق دورية لعرقلة الطريق. لم يكن هناك غرق. لم يكن هناك المزيد من الابتزاز. أخيرًا، كان البحر إلى جانبه. عندما يروي غيث الآن تفاصيل رحلته عبر البحر الأبيض المتوسط، في طريق يعتبر من أخطر الطرق البحرية، والتي شهدت في عام 2024 وحده وفاة أو اختفاء نحو 1700 شخص، بمعدل أكثر من أربعة أشخاص يوميًا، يتوقف عند مشهد واحد لن ينساه أبدًا: جثث منتفخة طافية على سطح الماء. كانت تلك الجثث تعود لمهاجرين آخرين، على متن قارب كان يسعى مثلهم للوصول إلى السواحل الأوروبية. كان من الممكن أن يكون هذا القارب قاربهم. وكان من الممكن أن يكون أحدهم غيث.

تلقينا رسالته التالية من جنوب إيطاليا، حيث وصل قاربه بأمان نهاية سبتمبر. وبحلول الأسبوع الثاني من أكتوبر، كان غيث قد وصل إلى ألمانيا، حيث يعيش عدد من أصدقائه. هناك بدأ في تقديم طلبه للحصول على اللجوء.

لم يكن يدرك غيث أن مصير سوريا سيتغير بشكل غير متوقع بعد أن حط رحاله في  أوروبا. فبعد شهرين فقط من وصوله، انهار نظام عائلة الأسد — النظام الذي فر منه مع عائلته — إثر عملية خاطفة نفذها الثوار. وهكذا، انفتح فصل جديد للشعب السوري في الداخل وفي الشتات، مليء بالأمل والخوف من المجهول.

كاتب

  • Okba Mohammad

    Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana

    View all posts

En español

Apóyanos
Con tu aportación haces posible que sigamos informando

Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.

Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.

Apóyanos
ادعمنا
بمساهمتك الصغيرة تجعل من الممكن لوسائل الإعلام لدينا أن تستمر في إعداد التقارير

نود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.

تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا

ادعمنا

Okba Mohammad

Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana
زر الذهاب إلى الأعلى