fbpx
الرئيسيةحقوق

جوف الأرض السورية: مخابئ للجثث مجهولة الهوية

منذ سقوط الأسد، اكتشفت عشرات المقابر الجماعية التي تضمّ آلاف الضحايا. سيستغرق مسار التعرّف عليهم عقودًا، وقد لا يكتمل أصلاً.

عقبة محمد – ليلى محرّم 

اضطر ناجي السعدي إلى انتظار تحسّن الطقس ليتمكن من استخراج جثة ابنه سليمان. مع ارتفاع حرارة الشمس بدأ الحفر بجانب أحد الجدران في قريته الطيحة في ريف درعا الشمالي. بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر الماضي، أخبره ابن شقيقته أن سليمان مدفون بجوار حاجز عسكري كان تابعاً للواء 121 في الفرقة السابعة من جيش الأسد، وهي الوحدة نفسها التي اعتقلت ابنه قبل عشر سنوات.

في الخامس من يناير، ومع صفاء السماء واعتدال الطقس، استعان  البالغ من العمر 63 عامًا بعدة عمال، استأجر حفارة صغيرة للبدء في البحث عن رفات سليمان، دون أن يبلغ أحداً في القرية.

يقول ناجي: “رأينا ساقًا وطلبت منهم إيقاف الحفر. ثم واصلنا الحفر بأيدينا حتى ظهرت بطانية عسكرية”. يتذكر بوضوح الملابس التي كان يرتديها ابنه سليمان يوم اعتقاله، وحتى آخر وجبة شاركها معه: أرز مع الفاصولياء. استمروا في الحفر بأيديهم ومعاول صغيرة بحذر شديد. يصف: “القبر لم يكن عميقًا”. 

كان ناجي يعتقد أنه سيجد عظام ابنه فقط، لكنه عندما وجد الجثة، رغم مرور السنوات، لم تكن قد تحللت بالكامل بعد.

يُقدّر أن مئات الآلاف من المواطنين السوريين قد قُتلوا منذ عام 2011 في ظل القمع الوحشي لنظام الأسد. الكثير منهم، مثل سليمان، انتهى بهم الأمر في واحدة من عشرات المقابر الجماعية المنتشرة في أنحاء سوريا. لا يُعرف العدد الدقيق، إذ تختلف التقديرات: وفقًا للجنة الدولية للأشخاص المفقودين، ومقرها في لاهاي، يوجد ما لا يقل عن 56 مقبرة جماعية في سوريا، بينما ترفع مصادر محلية هذا العدد إلى حوالي 200. سقوط النظام في ديسمبر أدى إلى الكشف عن العديد منها.

وُلد سليمان السعدي عام 1987، وكان أستاذًا للغة الإنجليزية يدرّس في قرية قريبة من بلدته قبل اندلاع الثورة في عام 2011، وهو العام نفسه الذي تزوج فيه. كان الشاب أحد أبرز الأصوات في الاحتجاجات التي طالبت بالحرية في مختلف قرى درعا جنوب البلاد، إذ كان يتحرك سرًا للمشاركة في المظاهرات لتجنب اعتقاله من قبل حواجز نظام الأسد.

وكذلك كان عضوًا في لجان التنسيق المحلية (وهي شبكة من مجموعات الناشطين التي أُنشئت خلال الانتفاضة الشعبية)، وكان يكرّس جهوده لمساعدة النازحين داخليًا. يقول والده: “في تلك الظروف، باع خواتم زوجته ووالدته لمساعدة النازحين”.

الشاب سليمان السعدي. مصدر الصورة: عائلته.

في 13 يناير 2014، كان سليمان قد اتفق على لقاء مع بعض الأصدقاء في متجر ببلدته. “كان المتعاونون المحليون مع النظام والمخبرون يكرهونه، وكانوا يخططون لشيء ضده”، يقول والده ناجي عبر الهاتف من درعا.

بينما كانوا في المتجر، اقترب عدة جنود بلباس مدني في سيارة وبدأوا بإطلاق النار على الشباب. أحد أصدقاء سليمان قُتل على الفور برصاصهم، بينما تم اعتقال سليمان وصديقه الآخر. أثناء الطريق إلى الحاجز، تعارك الصديق مع الجنود وتمكن من القفز من السيارة. في تلك اللحظات المليئة بالتوتر، أطلق أحد الجنود النار على سليمان وأصابه في ساقه.

يؤكد الأب: “كان الهجوم مدبرًا بشكل مسبق. سليمان ومرافقيه لم يكن لديهم أسلحة للدفاع عن أنفسهم”. علم بما حدث في اليوم التالي، عندما اشترى نسخة من جريدة البعث الرسمية من دمشق، (الجريدة التابعة للحزب الحاكم في ذلك الوقت). عند قراءتها، وجد الخبر: “وحدة من الجيش تقضي على أعضاء مجموعة إرهابية مسلحة في بلدة الطيحة، من بينهم سليمان ناجي السعدي”.

قرر الأب حينها عدم إبلاغ والدة سليمان أو زوجته “حتى لا يجرح مشاعرهما”. تمسك بخيطٍ من الأمل بأن الخبر غير صحيح، وأن ابنه ومعتقلًا في أحد السجون. خلال السنوات التالية، بحث ناجي في عدة فروع أمنية، مثل المخابرات الجوية والمحكمة العسكرية، بالإضافة إلى استفساراته من بعض المعارف، لكنه لم يجد أي معلومات.

لم يعرف الأب ما حدث إلا بعد سقوط الأسد في ديسمبر الماضي، وذلك بفضل رواية ابن عمة سليمان — الذي نقل له ما أخبره به جندي منشق كان في اللواء  121 حيث كان يؤدي خدمته في نفس الحاجز الذي وقعت به الجريمة — حيث قال إن سليمان توفي في الليلة نفسها التي تم اعتقاله فيها بسبب نزيف حاد، إذ لم يتم نقله إلى المستشفى. كما أوضح أن سليمان تعرض للتعذيب، حتى إنهم “أحرقوا لحيته”، ثم دفنوه على بعد أمتار قليلة من الحاجز.

لم تتمكن العائلة من الاقتراب من ذلك المكان إلا بعد سقوط النظام.

 يروي ناجي بصوتٍ هادئ: “كانت يداه مقيدتين خلف ظهره”. عندما علم سكان القرية أنهم كانوا يحفرون بالقرب من الحاجز، هرع العديد منهم إلى المكان. في فيديو نشره الوسيط المحلي “درعا 24″، ظهر ناجي وزوجته وعدد من أهالي القرية يحيطون بالموقع الذي وجدوا فيه رفات الشاب. يقول الأب: “هذا سليمان. وجدنا جثته بعد أن قتلته عصابات الأسد وأعوانه”. بينما كانت الأم تصرخ: “الله أكبر. الله أكبر. انتصرت الثورة يا سليمان”.

كفنّتْ العائلة ابنها ووضعوا عليه سترة كان يحب ارتداءها. وتركوا الحبل الذي كانت يداه مقيدتين به كدليل على الجريمة، ثم دفنوه في مقبرة القرية بجانب جده.

يقول ناجي عبر الهاتف من مجلس عزاء ابنه: “لقد تجاوزنا مرحلة الحزن، والآن نحن في مرحلة النصر والاحتفالات. لا نريد أن يؤثر الحزن على الشباب الذين سيبنون سوريا جديدة”.

القصة لم تنتهِ بعد. لا يزال أمام ناجي مهمة معلقة، كما هو الحال مع آلاف السوريين: تحقيق العدالة. يؤكد والد سليمان أنه يملك معلومات عن قائد ذلك الحاجز المسؤول عن مقتل ابنه، مشيرًا إلى أنه موجود في إحدى مناطق الساحل السوري، وأنه يستعد لبدء معركة قانونية ضده.

ناجي السعدي عند قبر ابنه الجديد في بلدة الطيحة شمال درعا جنوب سوريا. تصوير: عماد البصيري

بقايا جثامين في حمص ودمشق


في 18 ديسمبر، جمع فريق البحث من الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) بقايا عشرات الضحايا في مدينة السيدة زينب، التي تقع على بعد عشرة كيلومترات من دمشق. تم تنفيذ العملية بعد تلقي إشعار بوجود جثث في هذا المكان. وفي اليوم الذي سبقه، كان الفريق قد جمع أيضًا بقايا سبع ضحايا آخرين بعد تلقي إشعار بوجود قبر جماعي قرب مدينة عدرا في شرق العاصمة. في 16 ديسمبر، استخرجت الخوذ البيضاء في نفس المنطقة بقايا 21 جثة أخرى بالقرب من طريق مطار دمشق الدولي.

في أقل من شهر، تم العثور على بقايا 71 شخصًا في العاصمة ومحيطها. بعد سقوط نظام الأسد، تتابعت اكتشافات المقابر الجماعية واحدة تلو الأخرى، ولم تقتصر على دمشق فقط. بين التلال البركانية في منطقة القبو، في حمص قلب سوريا، اكتشف فريق الدفاع المدني أيضًا في 30 ديسمبر بقايا بشرية قد تتعلق بما بين 20 و25 جثة، وفقًا للتقرير الذي أصدرته المنظمة: كانت موزعة على عدة نقاط عبر ثلاثة كيلومترات، بعضها مغطى بالصخور، والبعض الآخر مكشوف تمامًا. كان من بين الجثث بقايا لنساء وأطفال. سُلمتْ الجثث إلى الطب الشرعي في مدينة حمص لإجراء الإجراءات اللازمة.

يقول الطبيب الشرعي في دمشق أحمد إبراهيم: “لدينا القدرة على العمل، لكن راتبنا لا يتجاوز 30 دولارًا، والعمل بهذه الطريقة أمر معقد”. كان إبراهيم في مستشفى المجتهد في العاصمة عندما تم اكتشاف العشرات من جثث المعتقلين بعد سقوط النظام، وتم وضعها في غرفة تبريد في انتظار أن يتعرف عليها أفراد عائلاتهم.

على عكس دول أخرى مثل إسبانيا، حيث لا يُسلم الجثمان في مثل هذه الظروف إلى العائلة إلا بعد تحديد هويته من خلال طرق علمية (مثل اختبار الحمض النووي أو بصمات الأصابع)، في سوريا يكفي أن يتعرف عليه أحد الأقارب أو تطابق صور الأسنان أو الصفات الجسدية. منذ سقوط النظام، وفقًا للدكتور إبراهيم، لم يتم تحديد أي جثة من خلال اختبارات الحمض النووي: هناك نقص في مجموعات استخراج العينات والوسائل اللازمة لإجراء التحاليل مثل ما يعرف بـ الكيتات أو kit باللغة الانجليزية.

بخبرة تزيد عن 25 عامًا، يُظهر الطبيب الشرعي الذي تخرّج من روسيا،إرادة كبيرة في العمل في بقايا الجثث التي سيتم العثور عليها في المقابر الجماعية، على الرغم من العدد المحدود للأطباء المتخصصين في هذا المجال في سوريا: يقدر أنهم حوالي خمسين طبيبًا فقط.

يؤكد الطبيب: “خلال الحرب، كان هناك لحظات فحصت فيها 40 جثة في اليوم. يمكننا التعامل مع 50 جثة كل أربعة أو خمسة أيام، لكن لا يمكنك إحضار ألف جثة في أسبوع واحد”. ويشير إلى أنه من الضروري إنشاء فريق طوارئ (لم يتم تشكيله بعد) للتعامل مع هذا الموضوع، وكذلك تعزيز التنسيق بين المؤسسات المسؤولة.

تسببت عملية نبش بعض المقابر الجماعية بطريقة عشوائية بموجة استنكار بين المتخصصين والمحامين والمنظمات الحقوقية.

حذرت الخوذ البيضاء من مخاطر حفر المقابر الجماعية دون وجود عمل منظّم ومتخصصين وراء ذلك: “الحفر العشوائي والتدخلات غير المهنية تؤدي إلى تدمير الأدلة الجنائية في مسرح الجريمة، مما يفقد فرصة مهمة لاكتشاف التفاصيل التي قد تساعد في تحديد هوية الضحايا والمتورطين في الجرائم المتعلقة باختفائهم”، وفقًا لما جاء في بيان نشرته المنظمة.

“بعد السقوط السريع للنظام، ودخول وسائل الإعلام، وبحث العائلات عن أحبائهم المفقودين، حدث نوع من التعدي على المقابر الجماعية، سواء من قبل السكان المحليين أو الصحفيين”، يقول المحامي السوري أنور البني الذي ناضل البني لأكثر من ثلاثة عقود في المحاكم ضد النظام السوري، وهو عمل دفعه لقضاء عدة سنوات في السجن. وهو الآن يدير من المنفى (ألمانيا) المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، الذي يلعب دورًا محوريًا في عملية تحقيق المساءلة.

متاهة التعرف على الهوية


لفهم الخطوات التي يجب اتباعها لمحاولة التعرف على ضحايا نظام الأسد البائد، أجرينا مقابلة مع لويس فونديبرودر، مختص في الأنثروبولوجيا الشرعية ومؤسس الفريق الأرجنتيني للأنثروبولوجيا الشرعية، الذي شارك في مهمات في جميع أنحاء العالم. وفقاً لهذا المتخصص، فإن فتح المقابر هو الخطوة الأخيرة في عملية تحديد هوية الضحايا.

يشرح فونديبرودر النقاط الأساسية لعملية تحليل شرعي صارمة: “يجب أن يتم استخراج الجثث بعد تحضير مسبق. إذا لم تكن لديّ فرضية حول هوية الشخص الموجود في القبر، فجمع العينة والانتظار أن تقدم آلة النتيجة لا فائدة منه. للأسف، لا يمكن الأمر هكذا”.

يقول: “أول شيء هو حماية الأماكن وعدم لمسها”، وذلك للحفاظ على الأدلة.

يتفق الطبيب الشرعي الأرجنتيني مع زميله السوري في ضرورة تنسيق الجهود ويقترح إنشاء هيئة يمكن أن تدعمها الأمم المتحدة، يقول: “هناك حاجة إلى قائمة مركزية للأشخاص المفقودين. العديد من المنظمات تعمل مع بيانات جزئية، لكن يجب توحيد المعلومات. من دون معرفة متى وأين ولماذا اختفى شخص ما، لا يمكن تحديد هويته”.

مع انتهاء حقبة الأسد، وجدت العائلات نفسها في حالةٍ من الحيرة والجهل بمصير أحبائهم المفقودين، مما اضطر العشرات منهم إلى تعليق  صور أبنائهم في ساحة المرجة في دمشق. تتضمن كل صورة معلومات وبيانات عن المفقود، على أمل الحصول على أي دليل يساعدهم في اكتشاف مكانه أو مصيره. لا يمر أسبوع دون أن تنظّم هذه العائلات احتجاجاً لإظهار قضيتهم للرأي العام.

—من الضروري الشرح للعائلات، بهدوء ووضوح، أنه لا يكفي جمع عظم وتحليله. إذا تم الأمر هكذا، فإن ذلك سيؤدي فقط إلى تراكم الجثث دون تحديد هويتها —يؤكد فونديبرودر.

عند سؤاله حول من يمكنه تولي تحديد الإجراءات والمعايير الجنائية، يذكر أن منظمات مثل الصليب الأحمر، التي تعمل في سوريا منذ أكثر من 20 عامًا، يمكن أن تكون وسيلة لجمع المعلومات.

في سوريا، إحدى مهام اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي توفير الإجابات للعائلات عن مصير المفقودين. يؤكد ستيفن رايان، منسق الانتشار السريع في الصليب الأحمر، أنه في 13 عامًا تم تسجيل نحو 35,000 حالة مفقودين، لكنه يعتقد أن العدد الإجمالي أكبر بكثير. على الرغم من أن مسؤولية حماية المقابر الجماعية وجمع بقايا الجثث غير المحددة تقع على عاتق السلطات، فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد قدمت في السنوات الأخيرة الخبرة والدعم لتعزيز قدراتها في مجال الطب الشرعي وفي الإدارة السليمة للسجلات والملفات.

“أحد أهم الخطوات هو توثيق اختفاء الشخص”، كما يقول رايان. ويُحذر من أنه يجب أن يتم ذلك في أقرب وقت ممكن: أحيانًا، “شيء بسيط مثل المكان الذي تم فيه رؤية الشخص للمرة الأخيرة والملابس التي كان يرتديها في ذلك الوقت قد يتحول إلى تفاصيل هامة للغاية تساعد في تحديد الهوية”. نظرًا للعدد الكبير جدًا من الأشخاص المفقودين في سوريا، فإن التنسيق بين المنظمات والتعاون مع السلطات خلال السنوات المقبلة سيكون أمرًا أساسيًا، بحسب الصليب الأحمر.

تعود حالات الاختفاء القسري الجماعي في سوريا إلى عام 1982، عند ارتكاب مذبحة مدينة حماة. في ذلك الوقت، دمرت القوات الحكومية المدينة لسحق تمرد هناك. تعرّض سكانها لأكبر مذبحة في تاريخ البلاد الحديث، حيث قُتل المدنيون بمن فيهم النساء والأطفال والمقاتلون بطريقة عشوائية. يُقدّر أن بين 30,000 إلى 40,000 مدني قُتلوا. وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، لا يزال مصير حوالي 17,000 شخص من حماة غير معروف منذ اعتقالهم من قبل قوات نظام حافظ الأسد ونقلهم إلى مراكز اعتقال سرية.

رفض النظام المخلوع توفير أي معلومات عن اعتقال أو مصير هؤلاء الأشخاص. تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان وشهادات عشرات الناجين والشهود إلى وجود مقابر جماعية لم يتم تحديد مواقعها بعد، مما يتطلب تشكيل فرق تحقيق متخصصة للعثور على هذه الأماكن التي قد تحتوي على المدافن، حسبما تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان. يحذر لويس فوندريبدير من أن ما سيتم العثور عليه ليس فقط ضحايا الأعوام الأربعة عشر الماضية ويشدد على ضرورة إنشاء قائمة مركزية للأشخاص المفقودين.

— يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه سيكون هناك أرشيف للمفقودين منذ عقود مضت.

نجاح عملية التعرف على الهوية، بحسب الطبيب الشرعي، يعتمد على نهج متعدد التخصصات يجمع بين الطب، وطب الأسنان، وعلم الوراثة.

 يقول: “يجب أن نكون مستعدين أن لا نجد جميع المفقودين. من يجب أن يتولى التنسيق هو مؤسسة ذات نطاق طويل الأمد ودائم”. والأهم من ذلك، يلخص قائلاً، هو مركزية المعلومات، وإبلاغ العائلات، وتدريب الأطباء الشرعيين المحليين. “هذا أمر بالغ الأهمية. سوريا هي دولة من الخبراء. يجب أن نعلمهم، وندربهم، ونؤهلهم ليقوموا بالعمل”.

نورة غازي، المحامية والناشطة السورية وهي ممثلة عن “عائلات سورية من أجل الحرية” — منظمة تضم عائلات المفقودين القسريين وتطالب بالعدالة— تحث السلطات الجديدة، كما يوصي فوندريبدير، على “إنشاء هيئة مستقلة مخصصة لاكتشاف الحقيقة، وضمان محاسبة المسؤولين عن الاختفاء، وتقديم التعويضات عن الأضرار بالإضافة للحفاظ على الأدلة والوثائق ذات الصلة، وتأمين المواقع التي قد تحتوي على مقابر جماعية محتملة”. وتأمل أن تحقق هذه الجهود إجابات للعائلات بشأن مصير أحبائهم.

“الخنادق المستطيلة”

من بين 135.000 معتقلاً ومفقوداً يُقدّر أنهم اُحتجزوا خلال السنوات الأربعة عشر الماضية، تم تحرير نحو 20.000 شخص من السجون ومراكز الأمن منذ ديسمبر الماضي، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان. لكن البقية —أكثر من 114.000 شخص— لا يزالون في عداد المفقودين. “هذه هي المرة الأولى التي نعلن فيها هذا: معظم المفقودين قسرياً في سوريا في سجون النظام قد تم قتلهم”، قال فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية، أثناء مداخلة له على قناة سوريا حيث لم يتمكن من حبس دموعه. كان يتحدث بعد يوم واحد من سقوط النظام، بينما كان العديد من الناس يحفرون في سجن صيدنايا بعد انتشار شائعات عن وجود زنازين سرية تحت الأرض.

بعد فترة وجيزة من سقوط النظام، بدأ الشهود الذين رأوا دفن الجثث على يد قوات الأسد بالإبلاغ عن مواقعها، بعد تخلّصهم من الخوف. كانت قوات النظام تجبر بعض المواطنين الذين يعيشون حول الثكنات  العسكرية على المشاركة في دفن الجثث التي كانت تُنقل شاحنات مبردة.

المحامي السوري أنور البنّي أحد أوائل الذين طاردوا المسؤولين عن عدة مقابر جماعية، يعتقد أن أعداد الضحايا ضخمة وفقًا للشهادات التي استمع إليها: “الأرقام المتعلقة بالأشخاص المدفونين في هذه المقابر لا تشمل فقط المعتقلين الذين تم قتلهم تحت التعذيب، بل تشمل الأشخاص الذين تم قتلهم في الشوارع، من بينهم جنود من النظام حاولوا الفرار وتم إعدامهم دون إخطار أسرهم أو تسليمهم الجثث”.

ينوه المحامي إلى أنه قد يكون هناك ضحايا من القصف أو من إطلاق النار على المظاهرات تم دفنهم في مقابر جماعية. يستمر البني في ملاحقة المتورطين بارتكاب جرائم حرب “بالتعاون مع منظمات أخرى، نكافح لضمان عدم إيجاد هؤلاء المسؤولين ملاذًا آمنًا في أوروبا”.

يقدر المحامي أن هناك ما يقرب من ألف شخص مشتبه بهم بارتكاب جرائم حرب يقيمون في أوروبا، ويتم جمع الأدلة لتوجيه التهم لهم ومحاكمتهم. ويعتقد أن العدد سيزداد لفرار العديد من المشتبه بهم بعد سقوط النظام.

***

موسى الحريري هو الطبيب المكلف باستخراج 31 جثة من مقبرة جماعية تم اكتشافها بالقرب من الطريق الدولي في مدينة إزرع بمحافظة درعا، يفيد بأن بعض هذه الجثث كانت محترقة وأخرى تحمل إصابات بطلقات نارية وواحدة منها كانت تحمل علامات شنق.

 كان أحد المزارعين يتواجد غرب هذه المدينة أثناء عودته لإعادة تأهيل ممتلكاته — التي كانت محتلة منذ عام 2013 من قبل عناصر الأمن العسكري التابع لنظام الأسد — فاكتشف “حفراً مستطيلةً” أثارت شكوكه. على الفور، أبلغ السلطات المحلية.

نسق الدكتور الحريري، المسؤول عن إدارة المدينة في ذلك الوقت، العملية بالتعاون مع النيابة العامة، وطبيب شرعي، وممثلين عن المستشفى الوطني، ووجهاء من القرية. وبعد تأمين المنطقة، بدأ عملية استخراج الجثث. تم العثور على 31 جثة، من بينها جثث أربع نساء شابات، وشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، وعدة ضحايا تحمل علامات عنف شديد. وأوضح الحريري أن الجثث تم الاحتفاظ بها في المستشفى لعدة أيام، حيث تم أخذ عينات الحمض النووي ثم دفنت مرة أخرى.

مقبرة جماعية تم العثور عليها في إزرع بمحافظة درعا، تحتوي على عشرات الجثث بتاريخ 16 ديسمبر 2024. صامويل ناكار

المكالمة التي لم تجد إجابة


ما تزال فدوى محمود تنتظر منذ 12 عامًا، أن يعاود ابنها ماهر طحان الاتصال بها. في عام 2012، كان زوجها عبد العزيز الخير عضو في حزب سياسي، عائدًا من مؤتمر سياسي في الصين، وكان ابنها ماهر قد ذهب لاستقباله في مطار دمشق. تستذكر فدوى: “في الساعة 17:05 اتصل بي ابني ليخبرني أنه كان ينتظر عبد العزيز، لكني شعرت أن هناك شيئًا غير مريح حيث كان هناك شيء مختلف في صوته، قلقٌ ما”.

اتصلت فدوى مرة أخرى بعد عشر دقائق، لكن المكالمة لم تجد إجابة: كان جوال ابنها خارج التغطية.

“شغلت نفسي بالطهي وتجهيز المائدة، لكن في داخلي كنت أعرف. خرجت إلى الشرفة ربما أراهم يقتربون من المنزل، لكن مع استمرار غيابهما حتى الساعة الثامنة، عرفت أنهما اُعتقلا.

في ذلك اليوم تغير كل شيء. تعبّر: “أمضيت 12 عامًا في الانتظار وكأن جزءًا مني مفقود. من الصعب جدًا الانتظار بهذه الطريقة، مع هذا الحمل على قلبي طوال الوقت”.


لم تبق المرأة مكتوفة الأيدي، فقد أسست “عائلات سورية من أجل الحرية”، التي تعد نورا غازي أيضًا جزءًا منها. خلال هذه السنوات، سافرنَ حول العالم في حافلة مغطاة بصور المفقودين، لكي لا تنتقل العتمة التي تسود سوريا إلى الساحة الدولية أيضًا. كُنّ يعرفن أن أصواتهن هي المكبر الوحيد لآلاف العائلات التي، داخل البلاد، لم تكن تجرؤ على الكلام.

فدوى محمود تحمل صورة زوجها إلى جانب أعضاء آخرين من منظمة “عائلات من أجل الحرية” في فبراير 2017 أمام مقر الأمم المتحدة في جنيف، سويسرا. مصدر الصورة: عائلات من أجل الحرية.

الآن أصبحت فدوى ناشطة معروفة، ومن برلين، تكون دائمًا مستعدة للحديث عبر وسائل الإعلام، رغم ثقل الغياب. عندما فُتحت أبواب السجون في 8 ديسمبر، كانت لا تزال تنتظر أن يعيد ابنها الاتصال بها: “كنا ننتظر لسنوات طويلة هذا اللحظة لرؤية أحبائنا. كنا نأمل أن يكونوا داخل السجون، لكن الأبواب فتحت ولم يخرجوا، ولم نسمع أي خبر”. 

تبدأ فدوى الآن مرحلة جديدة لاكتشاف مصير ابنها ماهر وزوجها عبد العزيز وهو شخصية سورية سياسية بارزة: “خلال كل هذه السنوات بقيت قوية بسبب إيماني بالقضية واعتقادي أن سوريا تستحق تضحيات لإسقاط هذا النظام الديكتاتوري. لكننا دفعنا ثمنًا باهظًا، أكثر مما كنا نتوقع”.

البحث عن زكريا


بعد أيام قليلة من سقوط الأسد، سافر السوري يحيى كودو من إسبانيا إلى سوريا، بعد غياب دام 13 عامًا، للبحث عن أثر أخيه زكريا، الذي اختفى منذ عام 2013 في سجون النظام المخلوع. تلقى والد يحيى وزكريا مكالمة في أبريل 2014 من فرع الأمن العسكري التابع للأسد في دمشق، أخبروه فيها أن زكريا قد توفي بنوبة قلبية في السجن. لكن العائلة احتفظت دائمًا بالأمل في أن يكون هناك خطأ ما. ولهذا السبب، بعد سقوط الأسد، سافر يحيى إلى دمشق للبحث عن أدلة حول مكان وجوده.

يشرح يحيى: “كان البعض يقول إن فلانًا تم الإبلاغ عن وفاته قبل 10 سنوات، ثم تبين فيما بعد أن هناك خطأً. هذا كان دائمًا يمنح العائلات خيطًا من الأمل، ويجعلهم يعتقدون أن أبناءهم قد يكونون على قيد الحياة في السجون، ولأننا لم نحصل على أي جثة أو دليل على وفاة زكريا، تمسكنا بالأمل”.

قبل يوم واحد من اعتقاله، كان زكريا، الذي كان يبلغ من العمر 17 عامًا في ذلك الوقت، قلقًا لأن زملاءه في المدرسة تم اعتقالهم. أخبر عائلته بذلك واقترح الاختباء في المناطق الريفية خارج سيطرة نظام الأسد والانضمام إلى إخوته هناك. لكن عائلته، التي لم تقتنع تمامًا، اعتقدت أن ذلك مجرد عذر للهروب من المدرسة.

حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، اقتحمت دورية من فرع أمن الدولة المنزل العائلي وبدأت في البحث عنه.

— استيقظنا على صوت الضجيج. زكريا، كونه صغيرًا، لم يسمع شيئًا لأنه كان نائمًا — تقول رُبا، زوجة يحيى، التي كانت شاهدة مباشرة على عملية الاعتقال في تلك الليلة —. قالوا لنا ألا نخاف، وأنهم لن يعتقلونا، وكل ما يريدونه هو زكريا لأن تقريرًا يتهمه بأنشطة “غير مشروعة”.

عندما دخلوا الغرفة لاعتقال زكريا، قالت لهم والدته بحذر: “دعوه يرتدي ملابسه كي لا يشعر بالبرد”. رد عليها الضابط قائلًا: “هل تريدين أن تعلّميني كيف أؤدي عملي؟”، وفقًا لرواية رُبا.

تخبر ربا: “قالوا لنا: لا تقلقوا، سنطلق سراحه خلال ساعتين. لكننا بقينا مستيقظين، كنا واثقين أنهم لن يعيدوه إلينا”.

في تلك الليلة، اعتقل الجنود أيضًا شقيقًا آخر لزكريا وزوج أخته، اللذين كانا في نفس المبنى. لكنهم أطلقوا سراحهما بعد حوالي شهر، وأخبرا العائلة أن زكريا كان يتعرض للتعذيب.

الورقة التي أعطتها الشرطة العسكرية لشقيقة زكريا والتي تحمل التاريخ المزعوم لوفاة الشاب.

وقعت مهمة البحث على عاتق يحيى وشقيقته بعد أن فقدا والديهما وأربعة من إخوتهما خلال الحرب. توفيت والدتهما في ديسمبر 2013 نتيجة قصف بالبراميل المتفجرة. أما أحد إخوتهما كان مع الجيش الحر وفقد حياته في إحدى المعارك شقيقان آخران أكبر من زكريا قُتلا في قصف آخر عام 2016، وهو القصف الذي أودى أيضًا بحياة زوجة أحدهما. أصيب والدهما بجروح وتوفي في عام 2020 متأثرًا بهذه الجروح. 

في المحكمة العسكرية بدمشق، أخبروا يحيى أنه لا توجد لديهم أي معلومات، وحثوه على مراجعة السجلات المدنية، لكنه لم يجد شيئًا هناك أيضًا. لم يتبقَ ليحيى وشقيقته، الناجيان الوحيدان من العائلة، سوى المكالمة التي تلقوها في أبريل 2014 وأخبرتهم بوفاة لم يرغبوا في تصديقها، وورقة حصلت عليها شقيقته عندما ذهبت للسؤال عن زكريا حينها.

كان مكتوباً على الورقة: “أُدخل في 24 أبريل 2014 وتوفي في 26 أبريل 2014. الشرطة العسكرية”.

كاتب

  • Okba Mohammad

    Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana

    View all posts
Apóyanos
Con tu aportación haces posible que sigamos informando

Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.

Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.

Apóyanos
ادعمنا
بمساهمتك الصغيرة تجعل من الممكن لوسائل الإعلام لدينا أن تستمر في إعداد التقارير

نود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.

تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا

ادعمنا

Okba Mohammad

Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana
زر الذهاب إلى الأعلى