fbpx
إسبانياالرئيسيةتقاريرحقوقدوليسياسة

الحاجز الذي لا ينكسر حتى بعد الموت

تتواصل عملية نزع الإنسانية عن المهاجرين الذين يخاطرون بحياتهم لعبور البحار، حتى بعد أن يفقدوا حياتهم أثناء رحلتهم، حيث تواجه عائلاتهم عملية بيروقراطية مرهقة وقاسية.

أبحرت الشابة الجزائرية فريال لرول (23 عام) في قاربٍ صغيرٍ في الخامس من أكتوبر عام 2021 متجهة نحو جزر البليار الإسبانية. بعد مرور أكثر من عامين، وفي إحدى من ليالي يناير/كانون الثاني عام 2023، كانت جثتها داخل شاحنة مركونة أمام أحد الفنادق في برشلونة، تمهيدًا لإعادتها إلى الجزائر. تمكنت والدتها وأختها من العثور عليها، والتعرّف على هويتها، وبدء إجراءات استعادة جثمانها. لكن الثمن الذي كان عليهما دفعه كان باهظًا جدًا.

في مشهدٍ مشابه غادر بابا موسى، شاب سنغالي (22 عام) بلاده على متن قارب متجه إلى جزيرة إل هييرو الإسبانية. وصل يوم الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لكن الشاب لم يصمد طويلاً. تُوفي بعد يومين فقط، ليُدفن اسمه مع جسده ثمّ تُطلق عليه السلطات الإسبانية اسمًا أو فقط رمزًا: “J-15”. ورغم مرور عامين على وفاته، لا يزال أصدقاؤه وعائلته يكافحون من أجل استعادة هويته وتكريمه باسمه الحقيقي.

كانت تعلم فريال وكذلك بابا موسى عندما ركبا البحر أن الرحلة ليست مجرد طريقٍ، بل جدار صعب ومميت. كانا على معرفة بالمخاطر، لكن عائلاتهم لم تكن تتخيل أن المأساة لن تنتهي بالموت. وراء الموت هناك جدار آخر أكثر تعقيدًا: جدار البيروقراطية، الذي يحرم الموتى من أسمائهم ويترك عائلاتهم في متاهة من الأوراق الرسمية والإجراءات الطويلة.

في تحقيق معمّق أجرته (بيننا، مجلة أسّسها صحفيون سوريون لاجئون في إسبانيا) و (5W مجلة إسبانية) حول قضيتي فريال لرول وبابا موسى، تكشّف خلاله جدار بيروقراطي غامض يعيق التعرّف على جثث المهاجرين ويزيد من معاناة عائلاتهم. هذا الجدار لا يقتصر على حجب الأسماء، بل يعكس نظامًا معقدًا يحوّل رحلة البحث عن الإجابات إلى معركة مرهقة ضد مؤسسات غير مهيأة لتلبية حقوق الأسر المنكوبة. ويدفع غياب الآليات والإجراءات الغير الواضحة العائلات إلى اللجوء لوسطاء خارجيين، لكن المأساة تكمن في أن المعلومات التي ينبغي أن تكون حقًا بديهيًا، تتحول في كثير من الأحيان إلى سلعة تجارية، مما يجعل الأسر عالقة بين ألم الفقدان واستغلال الحاجة.

قارب الموت 

على مدار العقد الماضي، طالبت المنظمات الإنسانية مرارًا بضرورة توفير مسارات قانونية وآمنة للوصول إلى أوروبا. لكن فريال لرول وبابا موسى كانا يدركان تمامًا غياب هذه المسارات، لذا اضطرا للمغامرة بعبور البحر. وما يغيب عن الأنظار هو أنه حتى بعد الموت، لا توجد آليات قانونية واضحة وآمنة تتيح التعرف على الضحايا، أو منحهم أسماء، أو حفظ كرامتهم الإنسانية. تتحول سياسات الموت التي تحكم الحدود الأوروبية إلى قوة تُزهق الأرواح وتُبقي الضحايا في دائرة المجهول.

قالت فريال لوالدتها قبل رحيلها: “سأسافر إلى إسبانيا عبر قارب سياحي، بجواز سفر، وبطريقة قانونية”.

كان المهرّب، الذي يقبع الآن في السجن بالجزائر، قد وعد فريال برحلة على متن قارب سياحي مقابل 6000 دولار. انتظرت والدتها زاهية وأختها سهام أي أخبار عنها لعدة أيام برفقة القلق الشديد. جاءت أولى المعلومات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الوسيلة التي يلجأ إليها كثير من الأسر للحصول على خيوط تقودهم لمعرفة شيء عن أبنائهم. بعد أيام قليلة من انطلاق الرحلة، انتشرت رسائل على الشبكات الاجتماعية تتحدث عن قارب مطاطي أبحر من شمال الجزائر باتجاه جزر البليار واختفى في عرض البحر. ومع استمرار غياب الأخبار عن فريال، بدأت زاهية وسهام تشكّان بأن القارب الذي اختفى قد يكون هو الذي كانت على متنه.

لم تكن فريال وحدها في الرحلة؛ فقد رافقها زوجها عيسى وطفلها أمجد ذو العامين ونصف. وقعت مسؤولية البحث عن مصيرهم على عاتق سهام، الأخت الوحيدة لها. بدأت في البحث عن أي خيوط تقودها لمعرفة الحقيقة، محاولة استكشاف القنوات التي يمكن أن تساعدها في الحصول على معلومات. ولكن الطريق إلى الحقيقة والعدالة وجبر الضرر مليءٌ بالعقبات بالنسبة لعائلات الأشخاص الذين يموتون أو يختفون أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا عبر طرق الهجرة. هذه العقبات تعود في معظمها إلى غياب الإرادة السياسية وانعدام التنسيق بين الدول.

غياب البروتوكولات

 تعرف هيلينا مالينو هذا الواقع جيدًا، فقد كرست سنوات طويلة للمطالبة بتسهيل عمليات البحث عن المهاجرين الذين يفقدون حياتهم أثناء محاولتهم عبور الحدود الأوروبية. هيلينا هي مؤسّسة منظّمة كاميناندو فرونتيراس (Caminando Fronteras)، التي تعمل منذ عام 2002 على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. تقول: “عندما تبدأ عائلة ما عملية البحث عن أحد أفرادها، فإنها تضطر إلى طرق جميع الأبواب بلا استثناء. فعلى الرغم من محاولاتهم اتّباع الوسائل الرسمية عبر تقديم بلاغات عن اختفاء في مراكز الشرطة، إلا أن الوصول إلى المعلومات بالنسبة لهم يكون معقدًا للغاية، وفي كثير من الأحيان يتم رفض البلاغات”. 

وتضيف: “العديد من العائلات تكون في وضع غير قانوني في الدول الأوروبية، مما يجعلها تخشى التقدم ببلاغات. كما أنه لا يوجد آلية تتيح لهم القيام بذلك من بلدانهم الأصلية”.

تروي هيلينا مالينو أن بعض العائلات، عندما تذهب إلى مراكز الشرطة للإبلاغ عن حالات اختفاء، يتم تحويلها إلى منظمات اجتماعية دون تسجيل البلاغ. تشرح: “إذا اختفى والدك المصاب بمرض الزهايمر، فلن تذهب إلى منظمة اجتماعية لتخبرهم باختفائه… ستتوجه مباشرةً إلى الشرطة”.


يتفق مع مالينو الطبيب الشرعي خوسيه لويس برييتو، منسق فريق العمل التابع للجمعية الإسبانية للطب الشرعي (SEPAF) والمتخصص في تحديد هويات المهاجرين الذين لقوا حتفهم عند الحدود. يقول الطبيب: “من المشكلات القائمة في إسبانيا أن قوات وأجهزة الأمن لا تحقق في حالات الاختفاء إلا إذا تم تقديم بلاغ مسبق. ومع غياب تسجيل هذه البلاغات، فإن تلك الحالات لا تعتبر موجودة فعليًا بالنسبة للإدارة الإسبانية”.

منذ عام 2015، يعمل برييتو على توحيد المعايير ووضع آلية قانونية تتيح للأطباء الشرعيين مطابقة بيانات الأشخاص المفقودين مع الجثث المجهولة الهوية. لكن لا تزال هذه الآلية غير موجودة حتى اليوم. يوضح: “عندما يُعثر على جثة غير معروفة الهوية، لا تتمكن قوات وأجهزة الأمن من ربطها بأي حالة اختفاء، ببساطة لأنه لا يوجد بلاغ مسجل”.

بعد خمسة عشر يومًا من اختفاء فريال، في 20 أكتوبر 2021، عُثر على جثة في حالة تحلل متقدمة على الساحل الجنوبي لجزيرة فورمينتيرا، وتحديدًا في منطقة سيتوفادور. بحسب تقرير التشريح الذي أجري بعد يومين من العثور على الجثة، كانت في مرحلة التصلب الشحمي (السَبُونِفِيكَاشْيُونْ). وأشار التقرير إلى أن سبب الوفاة كان: “الغرق والغمر بعد السقوط في مياه طبيعية”.

يقول خوسيه لويس برييتو: “نحن، كأطباء شرعيين، لا نستطيع بأي شكل من الأشكال الوصول إلى قواعد بيانات الأشخاص المفقودين. نفتقر إلى هذه المعلومات. قد تكون لدينا ملفات تعريف وراثية ودراسة جنائية متقدمة ومفصلة للغاية، ولكن هذا لا يؤدي إلى أي نتيجة إذا لم نستطع الوصول إلى قاعدة البيانات”.

تعتمد قاعدة بيانات “الأشخاص المفقودين وبقايا البشر غير المعروفة” (PDyRH) على وزارة الداخلية الإسبانية. ولا يُسمح لمعاهد الطب الشرعي وعلوم الأدلة الجنائية في إسبانيا بالبحث عن تطابقات مع قاعدة بيانات الأشخاص المفقودين لتحديد الهوية المحتملة؛ كما أن المعاهد التي تعتمد على الإدارات الإقليمية، وهي الغالبية، لا يمكنها حتى الوصول إلى هذه القواعد.

بحسب خوسيه لويس برييتو، فإن هذا الحرمان من الوصول يمثل أحد أبرز العقبات التي يواجهها الأطباء الشرعيون في محاولة التعرف على الجثث. هذه الجثث ليست مصنفة بأي شكل، مما يجعل من الصعب جمع بيانات دقيقة حول وفيات المهاجرين.

رفضت كلٌّ من وزارة الداخلية ووزارة العدل الاستجابة للطلبات التي قدمناها في هذا التحقيق للحصول على بيانات حول الجثث التي تم العثور عليها على السواحل الإسبانية، بدعوى أن جمع هذه البيانات يتجاوز إمكانياتهما. وقد أحالتنا وزارة الداخلية إلى البيانات العامة التي تشمل جميع المفقودين على المستوى الوطني، والمتوفرة في التقرير السنوي للمركز الوطني للمفقودين، والذي يشير إلى أنه تم العثور على 5.646 جثة بين عامي 2010 و2024، تم التعرف على هوية 1.690 منها فقط.

يقول الطبيب الشرعي لويس برييتو: “هناك حاجة ملحة لوضع بروتوكول موحّد يُطبق في جميع معاهد الطب الشرعي وعلوم الأدلة الجنائية، وخاصةً تلك التي تعمل على مشكلة التعرف على جثث المهاجرين. كما أن هناك حاجة ماسة لوجود قاعدة بيانات مركزية تجمع كل هذه المعلومات، بحيث تحتوي على إشارات محددة للحالات التي قد تكون وفيات على الحدود وتتعلق بالمهاجرين”.

دفن فريال

لم يتم التعرف على هوية فريال قبل صدور أمر دفنها. دُفنت الشابة دون اسم في 9 نوفمبر 2021، في مقبرة بلدية فورمينتيرا، وتحديداً في شارع “سا رودا”، الصف 60، القبر رقم 1، وفقاً لوثيقة التصريح بدفنها.

في تلك الأثناء، واصلت شقيقتها سهام البحث دون كلل. تواصلت مع كل من اعتقدت أنه قد يساعدها، ونشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تحكي فيها القصة وتطلب المساعدة والمعلومات. كما تواصلت مع المركز الدولي لتحديد هوية المهاجرين المفقودين (CIPIMD)، وهي منظمة غير حكومية إسبانية تعمل منذ عام 2017 كبديل للبحث عن المهاجرين الذين فقدوا حياتهم أو اختفوا في البحر وتحديد هوياتهم.

في بريد إلكتروني طلب هذا المركز من سهام وثائق الهوية، مؤكداً لها أنه لديه معلومات حول قضية شقيقتها. لم تكن قد اتصلت أي جهة رسمية مع العائلة قبل ذلك. أقامت سهام اتصالاً مع ماريا أنخيلس كولسا، مديرة المركز، ومع فرانسيسكو كليمنتي، شاب أندلسي يبلغ من العمر 28 عاماً كان حتى وقت قريب يتعاون مع المنظمة. وفقاً لكولسا، عمل المركز كحلقة وصل بين عدة عائلات والمؤسسات الحكومية لتسهيل عملية تحديد هوية فريال والأشخاص الآخرين الذين كانوا على متن نفس القارب.

تقول كولسا في مقابلة مع فريق هذا التحقيق: “عبئت العائلات استمارات [الاختفاء] وأُرسلت الوثائق إلى الحرس المدني، الذي يؤكد الهوية إذا وُجد جثمان مطابق. نحن نقوم بالتحديد المبدئي، لكن القرار النهائي للتعريف يتخذه القاضي”.

بعد أيام قليلة، نشرت صحيفة دياريو إيبيثا أن الجثمان الذي عُثر عليه قد يكون لفريال. ونُشرت في المقالة صورة أرسلتها الشابة الجزائرية إلى أختها قبل ساعات من رحلتها. في الصورة، تظهر فريال هادئة بجانب ابنها أمجد، الذي يرتدي معطفاً أزرق وقبعة صوفية عليها دب مبتسم على الجبهة. وفريال ترفع يدها اليمنى مشيرة بعلامة النصر. لكن هذه لم تكن آخر صورة تراها سهام لشقيقتها.

يرتدي فرانسيسكو كليمنتي جينز وسترة سوداء، ونظارات بإطار سميك، وحذاءً قديماً كاد يتلف أثناء تجوالنا على إحدى شواطئ ألميريا الأندلسية التي يرتادها كثيراً. يُعرف بين عائلات المهاجرين المغاربة والجزائريين بنشاطه المكثف على فيسبوك، حيث يتابعه أكثر من 260,000 شخص. كان يُعرف لسنوات على وسائل التواصل الاجتماعي بلقب “بطل البحر”، وأصبح مرجعاً لكثير من العائلات التي تبحث عن أحبائها، إذ ينشر باستمرار محتويات حول وصول القوارب الصغيرة، وحوادث الغرق، وظهور الجثث على السواحل الإسبانية.

يتذكر كليمنتي جيداً قضية فريال.

يخضع كليمنتي حالياً للتحقيق بسبب تعامله مع معلومات تتعلق بالأشخاص المتوفين على الحدود، يقول: “لقد أرسلت تلك العائلة صور التشريح الكاملة للجثة. طلبوها مني. كان شيئاً لم يكن ينبغي لي أن أفعله، لكنني فعلته”.

تُظهر الصور التي حصلنا عليها جسداً خضع للتشريح، مستلقياً على سطح معدني مُثقّب. بدا الوجه هيكلياً وغير قابل للتعرّف عليه. بعض الصور التقطت قبل عملية التشريح، ولا تزال تُظهر القميص الأصفر الذي كانت ترتديه وقت غرقها. أما الصور الأخرى فتُبرز تفاصيل مختلفة من إجراءات التشريح، بالإضافة إلى صور تظهر الجثة على الشاطئ.

تعتبر مشاركة هذا النوع من المعلومات الحساسة ممارسة متكررة على مدار سنوات. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن كان هو التعرف على الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في البحر، إلا أن ذلك أدى إلى عواقب خطيرة، خصوصًا عندما تكون حالة الجثث لا تسمح بتحديد الهوية بصريًا بشكل واضح، كما حدث في حالة فريال. تلقي هذه الصور تسبب في  حالة ارتباك لدى العائلات التي أجرينا معها مقابلات.

ينتقد أحد أعضاء وحدة الأدلة الجنائية في الحرس المدني، —الوحدة المسؤولة عن التحليل الجنائي والتحقيق في الأدلة في القضايا القضائية—  في مقابلة مع فريق هذا التحقيق قائلًا: “هذا الأمر (إرسال صور الجثة)، بالإضافة إلى كونه مزعجًا، فهو مرفوض تمامًا”. يعترف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، بوجود “تعاون جيد” بين الحرس المدني والمنظمات غير الحكومية، دائمًا بهدف العثور على المفقودين وتحديد هوية الجثث.

يوضح المصدر: “نحن نرسل وصفًا جسديًا، بالإضافة إلى تفاصيل حول المتعلقات الشخصية التي قد تكون بحوزة الجثة، لا يتم إرسال صور للوجوه، باستثناء بعض الحالات التي يتم فيها إرسال صور للملابس التي قد يكون يرتديها المتوفى. ويتم طلب صور من العائلات لأبنائهم لمقارنتها بالجثة التي لدينا”.

لم تكن هذه القاعدة التي تم اتباعها في جميع الحالات.

عندما تتطابق أوصاف العائلة لشخص مفقود مع وصف جثة مجهولة الهوية، يطلب القاضي من العائلة، عبر الإنتربول، إجراء فحوصات الحمض النووي لتأكيد الهوية. ولا تُقبل هذه الفحوصات إلا إذا كان هناك جثمان يمكن مقارنة النتائج به. في حالة فريال، ومع دفن الجثمان بالفعل، طلب القاضي من العائلة إجراء فحوصات الحمض النووي لأن الأوصاف التي قدمتها أختها سهام تطابقت مع وصف الجثة التي عُثر عليها. وبعد عملية طويلة تم خلالها تأكيد الهوية، أُعيد استخراج الجثمان وتم ترحيله إلى الجزائر. وعادةً ما تتكفل السفارة الجزائرية في إسبانيا بتكاليف ترحيل الجثامين، وهو ما حدث أيضًا في حالة فريال.

 تقول المسؤولة عن شركة دفن الموتى التي قامت بترحيل جثمان فريال: “عندما أخذت الجثمان، كان حفار القبور في فورمينتيرا يبكي. كان يضع لها الزهور بشكل منتظم”. كان ذلك في 22 مارس 2023، بعد عام ونصف من بدء رحلة فريال، وصلت رفاتها إلى الجزائر لتُدفن هناك.

لم تنتهِ القصة بدفن الشابة. لم تتمكن شقيقتها سهام من محو تلك الصور من ذاكرتها، ولا الأشهر العصيبة التي قضتها في البحث والانتظار، ولا ذكرى ابن أختها، أمجد، الذي كان يبلغ من العمر عامين ونصف وما زال مفقودًا بعد غرق القارب. أعربت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن استيائها من الاستغلال الذي تعرضت له من قبل العديد من الأشخاص الذين تواصلت معهم طلبًا للمساعدة خلال عملية البحث عن شقيقتها وترحيل جثمانها. كان ذلك كله عبئًا يفوق طاقتها.

تخبرنا والدتها عبر مكالمة فيديو من الجزائر، وهي محاطة بأحفادها الأربعة، أبناء سهام: “لم تستطع ابنتي استيعاب تلك الصور. كانت تعاني من القلق مسبقًا، لكن بعد أن تلقت تلك الصور، دخلت في حالة اكتئاب. لم تكن تخبرني بالتفاصيل حتى لا تقلقني، كانت تحتفظ بكل شيء لنفسها”.

في مقطع فيديو أرسلته سهام في 21 أبريل 2024 إلى شخص آخر يعمل كوسيط بين العائلات والأطراف المعنية بعمليات التعرف على الجثث وترحيلها، تحدثت عن التأثير النفسي الذي خلفته تلك الصور لشقيقتها، بينما كانت تعرض حفنة من الأدوية التي أصبحت تعتمد عليها.

قالت سهام في المقطع: “فرانسيسكو [كليمنتي]، لقد دمرت حالتي النفسية. هذه هي الأدوية التي أتناولها (…) أنا أخضع للعلاج في مستشفى للأمراض النفسية بسبب تلك الصور لشقيقتي. أنا أريد تقديم شكوى، لكنني لا أعرف كيف أفعل ذلك”.

بعد شهرين من إرسال هذا الفيديو، في مساء يوم 22 يوليو 2024، احتضنت سهام والدتها وقالت لها: “سامحيني، أحبك كثيرًا”، ثم توجهت إلى غرفتها، وتناولت جرعة من أدويتها. فجأة، بدأت تتقيأ سائلًا أبيض. نُقلتْ إلى المستشفى لكنها فارقت الحياة.

يقول فرانسيسكو كليمنتي بينما يتجول على الشاطئ: “ألقوا القبض علي العام الماضي. كانوا يظنون أنني أفتح ثلاجات حفظ الموتى [لأخذ الصور]، ولكن الأشخاص أنفسهم الذين ألقوا القبض عليّ هم من أرسلوا لي الصور. لم ألتقط صورة لجثة واحدة قط. الآن لا يمكنني مغادرة البلاد، لقد أخذوا جواز سفري، ومؤخرًا جاء الحرس المدني إلى منزلي مرة أخرى. حسابي البنكي مجمد. يتهمونني بقتل شاهدة محمية يبدو أنها كانت ضدي… يبدو أن الفتاة انتحرت”.

يتحدث كليمنتي عن سهام. وبينما يروي قصته، لا يتوقف عن النظر إلى هاتفه، حيث تظهر صفحته على فيسبوك مفتوحة أمامه.

يخضع فرانسيسكو كليمنتي للتحقيق بسبب تعامله مع معلومات متعلقة بتحديد هويات الأشخاص الذين لقوا حتفهم على الحدود في إسبانيا. وخلال إعداد هذا التحقيق، حصلنا على أكثر من عشر صور لجثث عُثر عليها على السواحل الإسبانية بين عامي 2020 و2023، كانت قد انتشرت بين عائلات الضحايا وتم إرسالها من قِبل وسطاء مختلفين. بعض هذه الصور نُشرت أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وفقًا للرصد المستقل الذي اجريناه بالإضافة لتقرير سرّي للشرطة حصلنا عليه.

خارج الإطار الرسمي

في آذار/ مارس 2024، ألقت قوات الحرس المدني الإسباني القبض على 14 شخصًا في محافظات مورسيا وكارتاخينا وألميريا وخاين، بتهمة الانتماء إلى “شبكة إجرامية كانت تستغل عملية تحديد هوية وترحيل جثث المهاجرين لتحقيق أرباح مالية”.

شملت قائمة المتهمين فرانسيسكو كليمنتي، ومديرة شركة دفن الموتى التي أشرفت على ترحيل جثمان فريال، والوسيط الذي أرسلت له سهام الفيديو. بالإضافة إلى ذلك، شملت التحقيقات أصحاب وموظفي شركات دفن الموتى، وأطباء شرعيين، وحتى مساعدين في معاهد الطب الشرعي والعلوم الجنائية في إسبانيا.

كما استُدعيت ماريا أنخيليس كولسا، مديرة مركز التعرف على المهاجرين المفقودين (CIPMID)، للإدلاء بشهادتها. تقول كولسا: “استُدعيت للإدلاء بشهادتي بصفتي رئيسة المنظمة. وعندما اكتشفوا أنه لا يوجد ما يُدين المنظمة، بدأوا يوجهون الاتهامات نحوي. لكني دائمًا أقول: ليس لدي ما أخفيه”.

نشرت صحيفتا لا فيرداد وإل باييس تفاصيل موسعة حول هذه القضية التي كشفت عن شبكة يُزعم أنها تستغل عمليات تحديد هوية وترحيل جثث المهاجرين المتوفين لتحقيق مكاسب مالية.

وفقًا لما ورد في ملخص القضية، عند العثور على جثة، لا سيما إذا كانت لشخص وصل إلى السواحل عبر قارب مطاطي (باتيرا)، تتنافس عدة شركات دفن على تولي مهمة التكفل بالجثمان وتنظيم عملية ترحيله إلى وطنه الأصلي، حيث تتراوح تكلفة هذه العمليات بين 2000 و7000 يورو، ما يعكس جانبًا مظلمًا من استغلال معاناة أسر المهاجرين في أوقات الألم والحزن.

كان المتورطون يحصلون على صور لجثث من أصول عربية غارقة في البحر، التُقطت داخل معاهد الطب الشرعي في مورسيا، وقرطاجنة، وألميريا، ومن بينها صور قضية فريال بمساعدة موظفين في تلك المؤسسات، الذين تلقوا “مدفوعات نقدية مقابل ذلك”، وفقًا لتقرير سري صادر عن الشرطة الإسبانية (الحرس المدني).

بعد ذلك، كانت تُستخدم هذه الصور للتواصل مع عائلات الضحايا في المغرب والجزائر، الذين يعيشون في حالة من اليأس بحثًا عن أي معلومات عن أبنائهم المفقودين.

تستمر التحقيقات القضائية حتى الآن، حيث تم توجيه تهم قبل عدة أشهر إلى مستشار سابق في وزارة العدل بتهمة مشاركة صور لجثث ومعلومات سرية مع منظمة CIPIMID دون الحصول على إذن قضائي. وكان المتهم، الذي شغل منصب مدير معهد الطب الشرعي في مورسيا، يعمل على ما يبدو كـ”مُيسر” لتسريب البيانات، مما سمح لبعض دور الجنازات المرتبطة بتسريع عمليات التعرف على الجثث وتنظيم عمليات إعادة الجثامين بهدف تحقيق مكاسب مالية، حسب ما ورد في تقرير للمحكمة التي تحقق في القضية.

في مكالمة هاتفية، يؤكد المستشار السابق قائلاً: “الإجراء القضائي المفتوح لا معنى له من الأساس. التحقيقات تتوسع إلى مستويات استثنائية، حيث يتم التحقيق مع معظم أفراد الحرس المدني على طول الساحل، في أليكانتي، مورسيا، ألميريا، جزر البليار، ومليلية. الآن لا يجرؤ أحد على اتخاذ خطوة، وما يقومون به هو نشاط قانوني تمامًا ويهدف إلى غرض إنساني. لأن المهاجرين قد يكونون أكثر أو أقل من حيث الوضع القانوني، لكن الموتى يبقون موتى، وللعائلة الحق في التعرف عليهم.”

يضيف المستشار السابق أن الطريقة الوحيدة للحصول على معلومات قبل الوفاة هي “اللجوء إلى المنظمات غير الحكومية، أو الشهود، أو الأقارب. لا توجد وسيلة أخرى للتقرب من المعلومات”.  ويشير أيضًا إلى أن “كولسا ومنظمتها غير الحكومية تحت التحقيق كذلك، وهي منظمة ليست فقط مسجلة رسميًا، بل لديها أيضًا اتفاقيات تعاون مع الحرس المدني، أي أنهم يقومون بنشاط قانوني وشرعي”.

على الرغم من أن منظمة CIPIMD والحرس المدني عملا على إعداد اتفاقية تعاون رسمية، إلا أن هذه الاتفاقية لم تُوقّع أبدًا، حسبما تؤكد رئيسة المنظمة كولسا. 

لا يوجد أي اتفاق موقع بين المنظمات الاجتماعية والدولة لتبادل المعلومات بشكل رسمي والتمكّن من إجراء عمليات التعريف. الاتفاق الوحيد الذي وُقّع في عام 2017 بين وزارة العدل والصليب الأحمر لم يعد سارياً، وفقًا لمصادر من تلك المؤسسة.

ويُشير الخبير الطبّي الشرعي خوسيه لويس بريتو إلى أن غياب وجود قناة رسمية لتبادل المعلومات يُشكّل “خطرًا قد شهدنا بالفعل آثاره”. ولهذا السبب يُشدّد بريتو على أهمية إنشاء أداة تتيح للخبراء الطبّيين الشرعيين وجميع المعنيين بعمليات التعريف العمل في بيئة آمنة ومحمية.

 J-15 أو بابا موسى

عبدولاي، السنغالي البالغ من العمر 31 عامًا، يعيش في جنوب تينيريفي. غالبًا ما يجلس على الشاطئ مواجهًا للمحيط الأطلسي، لكنه لا يسبح لأن البحر يُثير في نفسه الخوف. قبل عام ونصف، ركب قاربًا من السنغال برفقة أكثر من 200 شخص، إلى جانب عمه أسان وابن عمه الذي كان يناديه ببساطة “الأخ”: بابا موسى. وصلوا في الرابع من نوفمبر إلى الهيّيرو، أصغر جزر الكناري، والتي أصبحت خلال العامين الماضيين النقطة الرئيسية لوصول المهاجرين عبر البحر. وفقًا لبيانات وزارة الداخلية، وصل إلى الهيّيرو عام 2024 حوالي 23,994 شخصًا عن طريق البحر، وهو أكثر من ضعف سكان الجزيرة.

يقول عبدولاي بينما ينظر نحو الأفق: «كنا نريد أن نسافر نحن الثلاثة: بابا موسى، وأختنا الصغيرة، وأنا». قبل أن يقرر الركوب على القارب المعروف بـ(الكايوكو)، حاول عبدولاي السفر بطرق قانونية ثلاث مرات، لكن تم رفض طلبه للحصول على التأشيرة في كل مرة. وأضاف: «ذهبت أختنا أولاً دون أن تخبرنا. وبعد خمسة أيام من انقطاع الأخبار عنها، اشتريت تذكرة لأخي وسافرنا. ورافقنا عمي أسان أيضًا».

ظلوا ستة أيام في البحر. شرب بابا موسى ماء البحر لأنه لم يكن هناك ماء نقي على متن القارب، وبدأ يشعر بالتعب والضعف. وعندما وصلوا، كان في حالة ضعف شديد، فاضطروا لمساعدته على النزول من القارب.

كان بابا موسى من أوائل الواصلين إلى الشاطئ. في ميناء لا ريستينغا — النقطة الرئيسية لوصول القوارب في جزيرة إلهيّيرو — تقوم منظمة الصليب الأحمر بتعيين لكل شخص حرفًا ورقمًا: الحرف يحدد القارب والرقم يعتمد على ترتيب النزول من القارب. في حالة قارب بابا موسى، كان الحرف “J”، وكان هو الشخص الخامس عشر الذي نزل، ولهذا السبب أُطلق عليه اسم “J-15″، الاسم الذي ظل يرافقه حتى وفاته، رغم أن الكثيرين في الهيّيرو كانوا يعرفون اسمه الحقيقي.

وكما يحدث عادًة، نُقل القادمون الجدد إلى مركز الاستقبال المؤقت للأجانب (CATE)، حيث يتم احتجازهم لمدة تصل إلى 72 ساعة، يخضعون خلال هذه الفترة للتعريف من قبل الشرطة، والفحص الطبي، وتبدأ الإجراءات الإدارية. في مركز CATE في إل الهيّيرو، هناك مجموعة من المتطوعين تُدعى “القلب البرتقالي” ويُسمح لهم بالدخول؛ وهم دعم أساسي للمهاجرين في هذه الساعات الأولى. كانت تيسيدا، متطوعة من “القلب البرتقالي”، موجودة عند وصول بابا موسى وعبدولاي وآسان.

تقول تيسيدا: “وصلوا في ساعات الفجر. كانوا يحملون بابا موسى على الأكتاف لأنه لم يكن قادرًا على المشي. استلقوا للنوم. في الصباح، عندما استيقظوا، جاءني عم بابا موسى (آسان) يطلب المساعدة لأن ابن أخيه كان يعاني من ألم في الساقين. وعندما رفعت بنطاله الرياضي… كان ما رأيته أمرًا مرعبًا. لم أرَ شيئًا كهذا من قبل. كان لديه تورم من الركبة إلى الأسفل. اتصلنا بالإسعاف وأخذوه إلى المستشفى”.

ظل العم يسأل طوال اليوم عن بابا موسى، كان يريد زيارته لكنه لم يكن يستطيع مغادرة مركز CATE. وأخيرًا، في اليوم التالي، وبفضل تدخل وإصرار تيسيدا، تمكنوا من إجراء مكالمة فيديو. يقول عمه، آسان، عبر الهاتف منطقة ليبي (الأندلس): “كان مستلقيًا على سرير المستشفى، لا يستطيع الكلام، فقط كان يتلعثم ويتحدث بصعوبة. الطبيب طمأنني وقال إن بابا موسى سيكون بخير”.

لكن بعد ساعات قليلة من تلك المكالمة، توفي بابا موسى. ولم يتواصل أحد مع العم إلا بعد أيام.

يقول آسان وهو يتذكر بحزن: “من الاثنين إلى الجمعة كنت أتحدث مع عائلة بابا موسى في السنغال وأخبرهم أنه بخير. لم أكن أعلم أنه مات. عندما علمت بالأمر، لم أكن أعرف كيف أخبرهم. عندما علم والد بابا موسى، كان يريد شهادة وفاة لأنه لم يصدق الخبر”.

وكانت تيسيدا هي من استخدمت علاقاتها للحصول على شهادة الوفاة. تقول: “في أحد الأيام اتصل بي آسان وقال إن العائلة تحتاج شهادة وفاة لترتيب الأوراق، لأن لبابا موسى أطفال في السنغال. ذهبت إلى المحكمة وسألتهم، وأكدوا لي ذلك”.

لكن شهادة الوفاة هذه لم تُستخدم لإقناع العائلة بوفاة بابا موسى، ولا لترتيب الأوراق في السنغال. فاسم المتوفى في الشهادة مكتوب “J QUINCE” أو خ-خمسة عشر بالعربية واللقب “INMIGRANTE”، أي مهاجر.

تقول تيسيدا: “تحدثت مع صديقة كانت تعمل في المحكمة، وعندما شرحت لها الحالة، فتحت ملفاً له. اتصل بي الحرس المدني ليسألني عن علاقتي بابا موسى، وأروني صور الجثة، وقلت لهم نعم، إنه هو، وكان قد سافر مع عائلته الذين كانوا مستعدين لإجراء اختبار الحمض النووي (DNA)”.

ولكنهم اكتشفوا أن المستشفى لم يأخذ منه أي عينات لإجراء اختبار الحمض النووي، فكان لا بد من طلب أمر باستخراج الجثة، الأمر الذي استغرق أكثر من ثمانية أشهر. حتى الآن، لم يتم الاتصال بآسان، عم بابا موسى، لإجراء الفحوصات، أما عبدولاي، ابن العم، فقد سافر إلى إلهيّيرو لإجرائها، لكنه لم يتلقَّ أي أخبار بعد.

المشكلة تكمن في أن نتائج اختبارات الحمض النووي (DNA) تكون دقيقة فقط إذا أُخذت من أقارب مباشرين، مثل الوالدين البيولوجيين أو الأبناء. أما العينات المستخرجة من أبناء العمومة أو الأعمام، فهي أقل دقة وعادة لا تكون مجدية.

حتى الآن، لم يُطلب من والدي بابا موسى، اللذين يعيشان في السنغال، إجراء اختبارات الحمض النووي.

حتى لا تُمحى الحقيقة

من أبرز المطالب التي تكررها المنظمات المدافعة عن حقوق المهاجرين هي ضرورة السماح لأسر المفقودين بالوصول إلى السفارات أو القنصليات الإسبانية لتقديم بلاغات اختفاء وأخذ عينات تُستخدم لإنشاء ملفات الحمض النووي.

يؤكد الطبيب الشرعي لويس برييتو أنه في حال توفر هذا الإجراء، “سيتمكن الأقارب من زيارة تلك المكاتب القنصلية لتقديم بلاغات الاختفاء وأخذ عينات مرجعية. سيتيح ذلك مسارًا قانونيًا ورسميًا يضمن إدخال كل هذه المعلومات وجميع الملفات الجينية في الإجراءات القضائية، مما يُمكّننا من إجراء مقارنات دقيقة تُساعد في تحديد الهويات”.

تُدين الناشطة هيلينا مالينو وجود عنصرية مؤسسية واضحة في مثل هذه الحالات. تقول: “ما يجب فهمه هو أن التعامل مع قضايا الاختفاء يختلف جذريًا بين الشمال العالمي والجنوب العالمي. بالطبع يتم تسجيل هذه الاختفاءات، وهناك تقارير وشكاوى في بلدان المنشأ؛ حيث تُعتبر الضحايا موجودة وتُسجل رسميًا. لكن بالنسبة للعديد من هذه الأسر، تنتهي البروتوكولات عند هذا الحد لأنه لا توجد آلية عابرة للحدود تتيح تبادل المعلومات بسلاسة بين البلدان لتقديم استجابة مناسبة لهذه العائلات”.

على شاهد قبر بابا موسى كُتب: “رقد بسلام J-15، 6-11-2023”. ولكن إنديرا، ابنة تيسيدا والمتطوعة أيضًا في مجموعة “القلب البرتقالي”، تزور مقبرة موكانال في الجزيرة كلما سنحت لها الفرصة لتكتب بخط واضح وبقلم أسود اسم بابا موسى الكامل: بابا موسى ديوف، وتضيف تاريخ ميلاده: 25-3-2001.

تتلاشى الحروف والأرقام بفعل تقلبات الطقس، لكن إنديرا تعيد كتابتها مرارًا وتكرارًا. تحارب بذلك غبار الزمن ولا مبالاة المؤسسات الرسمية، محاولةً الحفاظ على هوية بابا موسى الحقيقة من النسيان.

قبور بلا أسماء

هاريديان ماريتشال، صحفية من جزيرة إل هييرو، تحمل في ذاكرتها قصصًا تقف وراء معظم شواهد القبور التي تحمل أرقامًا، حروفًا، وتواريخ. على الرغم من أنها لا تستطيع دائمًا تحديد هوية الأشخاص المدفونين هناك، إلا أنها قادرة على رواية ما حدث في أغلب الحالات.

في مقابر إل هييرو، تنتشر عشرات القبور المجهولة الهوية. إلى جانب الأرقام والتواريخ، يظهر على أغلبها كلمة واحدة: “مهاجر”. أولى هذه القبور تعود إلى عام 2007، لكن الأغلبية العظمى تحمل تواريخ ما بعد عام 2022، وهو الوقت الذي شهد ارتفاعًا كبيرًا في عدد الوفيات.

من بين المقابر التي تمت زيارتها، وُجد ما لا يقل عن 75 قبرًا مجهول الهوية موزعة كالتالي:

  • إل بينار: 44 قبرًا
  • فالفيردي: 10 قبور
  • لا فرونتيرا: 9 قبور
  • موكانال: 12 قبرًا

تلك القبور تروي حكايات صامتة عن معاناة من غادروا وطنهم بحثًا عن حياة أفضل، وانتهت رحلتهم على شواطئ هذه الجزيرة الصغيرة.

في مواجهة الفراغ المؤسسي، نشأت في جزيرة إلهيّيرو شبكة غير رسمية من المتطوعين، تسعى جاهدة لتجاوز الحواجز البيروقراطية التي تعترض طريق المهاجرين حتى بعد وفاتهم. هذه الشبكات، التي تعمل بدافع إنساني، تتعامل مع قضايا حساسة كان من المفترض أن تتولى السلطات مسؤوليتها.

تقول هاريديان ماريتشال، الصحفية التي عايشت قصص المهاجرين عن قرب: “في إلهييّرو، نحن ندعم بعضنا البعض كثيرًا. هنا، يتم تبادل العديد من البيانات والخبرات، ويتم تجاوز كل الإجراءات الرسمية التي يمكنك تخيلها. علينا أن نقوم بالجزء غير الرسمي حتى تتمكن العائلات في نهاية المطاف من الوصول إلى الإجراءات الرسمية”.

بينما تمر هاريديان بجانب قبر “J-15”، تتوقف للحظة لتزيل عنه الغبار، محاولة الحفاظ على كرامة صاحب القبر، في مواجهة غياب المؤسسات وتجاهلها.

 تقول هاريديان ماريتشال: “J-15 كان من أوائل القصص التي أعادتنا إلى الواقع”. 

بفضل جهود المتطوعات في منظمة “القلب البرتقالي”، وزملاء المستشفى، والصحفيين المتخصصين، وأفراد المجتمع المحلي في إلهييّرو، تمكن الجميع من جمع التفاصيل وربط الخيوط المتفرقة. النتيجة كانت صورة لبابا موسى، الذي تحول من رقم مجهول إلى إنسان يحمل اسمًا وقصة.

تضع هاريديان يدها على قلبها وتتابع: “لدينا صورته هنا”. صورة تذكرهم بأن وراء كل رقم هناك إنسان له حكاية تستحق أن تُروى.

تم إعداد هذا التحقيق بدعم من صندوق الصحافة الأوروبية

Authors

  • Okba Mohammad

    Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana

    View all posts
  • Anna Surinyach
Apóyanos
Con tu aportación haces posible que sigamos informando

Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.

Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.

Apóyanos
ادعمنا
بمساهمتك الصغيرة تجعل من الممكن لوسائل الإعلام لدينا أن تستمر في إعداد التقارير

نود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.

تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا

ادعمنا

Okba Mohammad

Cubrió la guerra en el sur de Siria de 2015 a 2018 con medios locales. También se ha dedicado a documentar violaciones de derechos humanos de detenidos durante el conflicto. En 2019 trabajó como corresponsal independiente en Turquía y posteriormente viajó a España, donde ha colaborado con medios como Global Voices y el diario Público. Actualmente trabaja como reportero en Baynana
زر الذهاب إلى الأعلى
ملخص الخصوصية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط حتى نتمكن من تقديم أفضل تجربة مستخدم ممكنة لك. يتم تخزين معلومات ملفات تعريف الارتباط في متصفحك وتقوم بوظائف مثل التعرف عليك عند العودة إلى موقعنا أو مساعدة فريقنا على فهم أقسام الموقع التي تجدها أكثر إثارة للاهتمام وفائدة.

مزيد من المعلومات في سياسة ملفات تعريف الارتباط.