fbpx
الرئيسيةحقوقسياسةفيديو

رحلة الموت: ناجون يتهمون خفر السواحل اليوناني باغراقهم

التقتْ مجلة بيننا ومجلة 5W الإسبانية عدداً من الناجين من أحد أسوأ حطام السفن في تاريخ البحر الأبيض المتوسط، التي تحطّمتْ في الرابع عشر حزيران، وكان على متنها 750 مهاجراً، وألقى هؤلاء الناجون ​​باللوم على خفر السواحل اليوناني في هذه المأساة.

Ayham Al Sati – Anna Surinyach

استنكر العديد من الناجين من ركّاب السفينة التي غرقتْ في 14 حزيران – يونيو في البحر الأبيض المتوسط، ​​أن تصرفات خفر السواحل اليوناني تسبّبتْ في غرق هذا القارب الذي كان على متنه 750 مهاجراً، وعلى وجه التحديد، أوضحوا أنّ السفينة اليونانية ألقت حبلاً على القارب ثم سحبته بسرعة عالية. بينما نفتْ السلطات اليونانية أن يكون خفر السواحل قد تسبّبوا في الغرق أو أنهم حاولوا جرّ السفينة، وقالت أنّ الركّاب أرادوا مواصلة الإبحار والوصول إلى إيطاليا. لكن الناجين قدّموا تفاصيل قاطعة عن حالة الطوارئ التي حدثت على متن سفينة، وأنهم كانوا بحاجة ماسّة إلى المساعدة الفورية.

أعادتْ مجلة بيننا ومجلة W5 الإسبانية بناء حطام هذا القارب بناءً على مقابلات مُعمّقة مع سبعة من الناجين، وسوف يتم استخدام أسماء مستعارة في التقرير لحماية هويتهم والحفاظ على سلامتهم. لقد تمّ حشر مئات الرجال والنساء والأطفال مثل البضائع في قارب صيد مصريّ الصُنع، ونجا منهم فقط 104 أشخاص. 

غادر قارب الصيد ليبيا وكان متجهاً إلى إيطاليا، وقد نفذ الطعام والماء على طول الطريق، وشرب بعضهم البول، حتى أن بعض شرب الحليب من ثدي امرأة، وأُغمي على كثيرٌ منهم، وطلبوا المساعدة مراراً وتكراراً، وقدمت لهم بعض السفن الماء والطعام، وتمت مراقبتهم لساعات، لكن لم ينقذهم أحد.

كان هناك قتلى قبل الغرق بسبب الوضع اليائس على متن السفينة. فيما لا توجد صور عامة عن لحظة الغرق على بعد حوالي 50 ميلاً من ساحل بيلوبونيز، في واحدة من أعمق النقاط في البحر الأبيض المتوسط. يكشف هذا التحقيق أن السلطات اليونانية صادرت الهواتف المحمولة للناجين، وأنه مهما كان دور خفر السواحل اليوناني في المأساة، فإن هذه الرواية تكشف على الأقل عن إهماله.

غرق هذه السفينة في يوم 14 حزيران – يونيو هو رمز لحقبة تاريخية، تشرح رحلة الموت التي قطعها مئات الركاب على متن تلك السفينة الزرقاء، والذي تسبّب في اختفاء 27000 آخرين في البحر الأبيض المتوسط ​​منذ عام  2014. يوضح حطام هذه السفينة فشل سياسات الهجرة الأوروبية في الترحيب بالهاربين من الحرب والجوع، وازدراء الأرواح غير الأوروبية، واستبدال مفهوم الإنقاذ البحري بمفهوم “حماية” الحدود وإذلال المهاجرين، كذلك يكشف فساد شبكات الاتجار بالبشر.

هذه هي رحلة الموت، خطوةً خطوة، كما يصفها أولئك الذين تمكنوا من الوصول لختامها أحياء.

حظائر للحيوانات

بدأ الخوف والألم وسوء المعاملة بالنسبة لمعظم الذين كانوا على متن القارب قبل إبحارهم. تكشف الشهادات التي جمعتها بيننا و 5W أنّ قسماً كبيراً من الركاب أمضوا أسابيع وحتى شهور محبوسين في حظائر أو مستودعات بالقرب من مدينة طبرق الليبية، في ظروف يُرثى لها، ويعانون من سوء المعاملة والعنف، في انتظار الصعود على متن القارب.

وبحسب العديد من الناجين، فإنّ زعيم إحدى شبكات التهريب يُعرف باسم أبو نبال. ثلاثة من الناجين: أكرم وخالد وأحمد، يروون كيف التقطتهم الشبكة التي يقودها هذا المهرّب – كلّ واحد منهم على حدى – في مطار بنغازي، ثاني أكبر مدينة في ليبيا، شرق البلاد. ومن هناك نُقل الثلاثة – في أوقات مختلفة – إلى ميناء طبرق، حيث تم نقلهم إلى أماكن مُعدّة لاستقبال الحيوانات.

يقول خالد: “كانت مساحات مخصّصة للدجاج والأبقار وحتى للجمال، كان كل شيء مُتسخاً للغاية”. وهناك أخذوا هواتفهم المحمولة وحبسوهم. لقد كانوا معزولين تماماً، يقول أكرم، الذي بقي هناك لمدة ثمانية أشهر يتلّقى ضربات وتهديدات وشتائم: “لو اندلعت حرب في الخارج، لما علمنا بها، لم نكن نُميز بين الليل والنهار”. أما أحمد فقد تم حبسه لمدة شهر، خالد شهر ونصف، وتعرّضوا لانتهاكات بشكل مستمر، يشرح خالد بأنه كان كل شيء ممنوعاً حتى العطاس: “إذا سمعوا صوتك، كانوا يدخلون ويضربونك”. كان القائمون على السجن مسلحين، وكان بعضهم من القُصّر؛ خلال الوقت الذي كان فيه هناك، كانت هناك عمليات سرقة ونهب بل واغتصاب، ولم يتلقوا سوى وجبة واحدة في اليوم عادةً ما تكون رغيف خبز وقطعة صغيرة من الجبن، وفقاً لأكرم، الذي يؤكد أنهم لم يتمكنوا من تلبية الاحتياجات الأساسية عند الحاجة (الدخول للحمام)، وأنهم غالباً ما كان عليهم القيام بها داخل الحظيرة المعتقلين فيها، حيث كانوا يأكلون وينامون في نفس المكان، وكان المكان مليئاً بالعفن والأمراض، مثل الجرب وغيره. وهناك رأوا أشخاصاً من جنسيات متنوعة من الباكستان وسوريا والسودان ولبنان.

يقول أكرم، وليس هذا اسمه الحقيقي: “لو اندلعت حرب في الخارج، لما علمنا بها”. ©Anna Surinyach

خلال الأشهر الثمانية التي قضاها أكرم في الحبس، سأل في عدة مناسبات عن سبب انتظاره طويلاً. وكان رد السجّانين أنهم كانوا ينتظرون الضوء الأخضر من الميليشيات، يقول: “القائمون على هذه السجون هم مليشيات وكتائب مسلحة وعصابات تابعة لحكومة حفتر (المُشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا)”. ويؤكد خالد أيضاً أنّ هناك جنوداً من جيش حفتر: “لقد كان ذلك علناً، الكل يعرف ذلك (التهريب)، بما في ذلك الحكومة، لا يوجد شيء مُخبأ”.

لم يكن كل من سافروا على متن قارب الصيد ينتظرون في هذا النوع من الحظائر، فبعض الذين دفعوا مبالغ أكبر تمكنوا من الانتظار في مبنى سكني في طبرق، بحسب لاواند، وهو أحد الناجين الآخرين، وصل إلى مطار بنغازي، ومن هناك تم نقله إلى مبنى سكني. يوضح: “في كل شقة كان هناك أناس مثلنا، يريدون مغادرة البلاد، مصريون وباكستانيون وسوريون …، وكان في كل شقة أكثر من 40 شخصاً”. مكث لاواند هناك 15 يوماً، وعندما سألوا متى سيغادرون؟ قال لهم المُهربون إن عليهم الانتظار.

يتفق الناجون الذين تمتْ مقابلتهم على أنهم دفعوا للمهربين ما بين 4000 دولار و4500 دولار، مقابل الرحلة من ليبيا إلى إيطاليا، كانوا قبل ذلك اضطروا إلى دفع تكاليف الرحلة إلى ليبيا، من موطنهم الأصلي، ودفعوا ما يتراوح بين 1700 و4000 دولار. في مقابل هذه الأموال، أكد لهم المُهرّبون أنهم سيسافرون إلى إيطاليا على متن قارب لن يحمل على متنه أكثر من 400 شخص، وأنه سيتم تزويدهم بما يكفي من الطعام والماء خلال الرحلة التي كان من المفترض أن تستغرق ما بين يومين إلى يومين ونصف اليوم كحد أقصى. يقول لاوند الذي سافر مع صديقه كوا وابن عمه الذي غرق عند تحطّم السفينة في البحر: “لم نرَ شيئاً من تلك الوعود”.

تختلف رواية الناجين عن اللحظة التي نقلهم فيها المهرّبون إلى الشاطئ الذي أبحروا منه، لكنهم جميعهن يتفقون أنهم طلبوا منهم الخروج ليلاً، دون إشعار مسبق ودون أي شرح إلى أين كانوا ذاهبين. يقول لاواند بإنه تم إخطاره ورفاقه في منتصف الليل، وأنهم اضطروا للمغادرة على الفور، وسافروا من الشقة في سيارة أجرة لمدة ساعة ونصف تقريباً، إلى ساحة كان فيها الكثير من الناس. يتذكر لاواند: “كانوا يحسبون عددنا، وسألونا لأيّ مهرّب نتبع”. تم نقل كثيرٌ ممن كانوا على متن القارب من السجون التي كانوا فيها في ليبيا، ودون إشعار مُسبق وتم نقلهم في برادات شحن وبعضهم في شاحنات نقل الرمال ومواد البناء، يقول حسن: “أعتقد أنه في كل شاحنة كان أكثر من 200 شخص، كنا جميعاً محشورين”.

استعاد أكرم ورفاقه هواتفهم المحمولة التي تم أخذها منهم عند حبسهم في حظائر الحيوانات. يقول أحمد إنهم نُقلوا من ذلك السجن إلى مكان قريب من الساحل في برادات شحن مُخصصة لنقل الطعام، وكانت مُغلقة بشكل مُحكم: “كان هناك أعداد كبيرة وكنا مزدحمين معاً، ولم تكن المساحة كافية لنا، كان الجو خانقاً تماماً، ولدينا الكثير من الصعوبات في التنفس”.

عند الاقتراب من الساحل، قَسّم المُهربون المهاجرين إلى مجموعات، وجعلوهم يركضون عبر جبال  وعلى طرق صخرية وترابية، مع تهديدهم والتعامل معهم بشكل سيء، إلى أن وصلوا أخيراً إلى الشاطئ. كان بينهم من استطاع أن يحمل حقيبته وفيها بعض الطعام ومياه الشرب أو سترات النجاة، لكن المُهربين لم يسمحوا لهم بحملها، يقول أكرم: “كان معي شنطة (حقيبة ظهر)، وقالوا لي إن عليّ أرميها، لأنها تأخذ مساحة شخص، حتى أنهم أخذوا منّا سترات النجاة (التي كان يرتديها بعضهم)، ولم يُسمح لنا بأخذ أي شيء معنا”.

كذلك يؤكد لاواند أنه لم يُسمح لهم أيضاً بحمل حقائب الظهر التي تحتوي على طعام وشراب. يقول: “أجبرونا على رميها، ومن هنا بدأ الخوف: بدأوا في ضربنا وإهانتنا، لذلك فكرنا: لن نصعد! إذا كانت البداية هكذا، فكيف سيستمر هذا!؟ لكننا لم نستطيع أن نقول إننا نريد العودة، لم تكن هناك إمكانية للرجوع”. بالضرب والتهديد تم إجبار الجميع على الاستمرار. كان هناك أشخاص طلبوا من المُهربين أنهم يريدون الرجوع، وأخذوهم بالقوة، بحسب لاواند.

يقول مصطفى وهو أحد الناجين: “كنا نعرف إنه إذا امتلأ القارب فلن نتمكن من الصعود، وأننا سنبقى في ليبيا، والبقاء يعني الاختطاف، ثم الضغط على عائلتك لدفع فدية مالية”. ©Anna Surinyach

قارب الصيد

استمرت الانتهاكات مع صعود المهاجرين قارب الصيد، وهو سفينة زرقاء طولها 30 متراً، مُقسمة لثلاثة طوابق: السطح العلوي والسفلي بمساحة مغلقة، إضاقةً للقبو (البراد).

يقول مصطفى: “الوصول للقارب يعني البدء في الصراخ والضرب، وكان هناك أطفال وعائلات، والذي يصل أولاً، يتم إنزاله إلى القبو، فقط إذا دفعت، يمكن أن تصعد إلى ظهر السفينة”. يتابع: “نحن كنا ثلاثة، أخذونا إلى الأسفل؛ ظننت أن ذلك جيداً، لكنني رأيت الكثير من الناس هناك، معظمهم من الباكستان. لا أعرف عدد الأشخاص بالضبط، لكن أعتقد أن هناك أكثر من 200 شخص. لم يكن هناك تهوية أو نوافذ يمكن فتحها. تحدثت إلى المهربين وأخبرتهم أن لدي مرض ربو، وأنني أريد الصعود، قالوا لي: إذا كان لديك فلوس (المال) يمكنك الصعود. أعطيتهم 100 يورو مقابل صعودنا نحن الثلاثة، وصعدنا”.

يروي خالد: “كان هناك رجل على ظهر السفينة، كان يضربنا ويأخذنا للقبو، لأنني قررت أنا وابن عمي الخروج من الأسفل والصعود معاً دون أن يرانا أحد ودون دفع أي شيء، وخرجنا وصعدنا وجاء أحد المهرّبين وبدأ يضربنا ويهددنا بسكين، ثم رأيناه يجمع المال من الناس. تحدث إليه ابن عمي وأعطاه 100 دولار للسماح لثلاثة منّا بالصعود للأعلى”.

أكد جميع المهاجرين الذين تمت مقابلتهم أنهم دفعوا للخروج من هذا المأزق (البقاء في القبو)، والتمكّن من السفر على ظهر السفينة، الأمر الذي سينتهي بهم إلى إنقاذ حياتهم، بينما من المرجح أن من كانوا في الأسفل فقدوا حياتهم جميعاً. يقول أكرم الذي دفع أيضاً 100 دولار للصعود إلى الأعلى: “أخبرونا الذين قاموا بالرحلة من قبل أن نرفض البقاء في الطابق السفلي. وعندما كنا على سطح السفينة، كان المهربون يحملون العصي، وإذا لم يستجب لهم أحد يضربوه بشدّة على وجهه ويشتموننا”. 

تتفق شهادات الناجين على أنه من بين المهربين، كان هناك مصريون، وأنه قيل لهم أن هناك أكثر من 400 شخص مسافرين على متن السفينة. يقول أكرم: “كنا حوالي 750 شخصاً من جنسيات مختلفة: سوريون، مصريون، باكستانيون، فلسطينيون …”. 

يؤكد خالد أن الوضع كان سيئاً في السفينة. يقول إن العائلات وُضعت في مكان مغلق تحت السطح العلوي: لم يكن هناك سوى عدد قليل من فتحات التهوية، ولم تكن أفضل بكثير من القبو. وبحسب الشهادات، كان ما لا يقلّ عن سبع عائلات كبيرة من سوريا، وكان من بين أفرادها نساء وأطفال، ذكور وإناث، كذلك كان هناك من هم تحت سنّ 18 عاماً بكثرة على السطح. 

يشرح لاواند: “قالوا لنا إننا 400 شخص، لكن كان هناك عدد أكبر بكثير؛ وقالوا لنا أيضاً إن الحكومة الليبية كانت موجودة (أي أنها تشرف على العملية). لكن بعد رؤية كل هؤلاء الناس وسوء المعاملة، وهذه الزبالة من البشر… شعرنا بالخوف والتردد. لو كنا نعلم أن هذا سيكون هو الحال، لما جئنا. لكننا لم نكن قد شاهدنا هذا الخطر”. دفع هو ورفاقه 200 دولار ليكونوا على ظهر السفينة. كانوا جميعاً على السطح يجلسون على الأرض بجانب بعضهم البعض، وأرجلهم مرفوعة وملتصقة ببطونهم.

أبحر قارب الصيد الذي كان يحمل على متنه أكثر من 700 روح عند طلوع الفجر.

قصة غرق السفينة 

بعد الفوضى التي حدثت في البداية، يتفق الناجون: “في اليوم الأول كان كل شيء على ما يرام”. البحر هادئ، وقد تلقوا الطعام والماء، واستمرت السفينة في مسارها الطبيعي. في اليوم الثاني بدأت الأمور تسوء. يقول أكرم: “كانت الأمواج شديدة للغاية، وجاء إلينا أحد المهربين وأخبرنا أننا ضائعين في البحر”. يتفق أحمد: “بدأت السفينة تدور حول نفسها، وقد أدركنا ذلك، لأننا رأينا نفس القوارب على الجانب الأيسر، ثم على الأيمن”. عندها كان قد أصبح الطعام والماء شحيحين، وعلى الرغم من ذلك، حاول الركّاب ألا يفقدوا أعصابهم، وأن يحافظوا على تماسكهم، لأنه ما يزال هناك مزيداً من الإبحار للأمام. يقول حسن: “كان الجميع خائفين، لكننا تقبلنا حقيقة أننا كنا ما نزال على قيد الحياة، وبدأنا نُهدّأ بعضنا”.

في اليوم الثالث نفد الطعام والماء، ومنذ ذلك الحين أصبح الوضع لا يطاق. يتذكر أحمد أن هناك خزاناً يحوي مياه قذرة تُستخدم لمحرك السفينة، كان المهربون يبولون في علب ويفرغونها في هذا الخزان، وفي اليوم الثالث أُجبر العديد من الأشخاص على الشرب منها، بعد فلترتها بملابسهم. كانت الشمس حارقة والليل عاصف وبارد، وبدأ القيء والإغماء . يقول لاواند: “لقد شربنا مياه البحر، ربطنا الزجاجات بالحبال، وألقيناها في البحر لجلب الماء”. واستخدم بعضهم حبّات من التمر بقيت معهم لمحاولة تحلية مياه البحر المالحة جداً.

جميع الناجين الذين تحدثنا إليهم كانوا على ظهر السفينة – لقد نجوا على وجه التحديد بسبب ذلك – ولديهم معلومات محدودة حول ما كان يجري في القبو (البراد)، في حين كانت المأساة تختمر بالفعل في اليوم الرابع والخامس. يقول خالد: “كان هناك الكثير من المرضى، وقيل لنا أن باكستانياً مات في الأسفل، ثم قالوا بإن هناك المزيد من الوفيات، لكننا لم نرها. خمسة أو ستة … “. لم تكن ظروف السفر مثالية على ظهر السفينة: “لا يمكنك النوم متمدداً، وإذا نمت، يأتون ليضربوك”. كان الوضع خارج نطاق السيطرة. يقول لاواند: “كانت هناك حتى نوبات من الجنون، والهجمات العصبية والهلوسات. لقد رأيت أشياء لم أرها في حياتي، كانت الناس تسير كالزومبي”.

شاهدت طائرة استطلاع جوية من وكالة حرس الحدود الأوروبية (فرونتكس) قارب الصيد يوم الثلاثاء 13 يونيو في الساعة 09:47 (بالتوقيت العالمي). وفي بيان لها، حددت فرونتكس أن: “السفينة كانت مزدحمة، وكانت تبحر بسرعة بطيئة في اتجاه شمالي شرقي”. يقول الناجون أيضاً إنهم رأوا طائرة بدون طيار (درون)، وطائرة هليكوبتر، حلقتْ فوق المنطقة عدّة مرات. تمّ تنبيه الجهات الفاعلة الرئيسية، حيث أبلغت فرونتكس، التي أكدت في بيانها أنها لم تكن تراقب المنطقة أثناء غرق السفينة، لأن إحدى طائراتها بدون طيار كانت تراقب سفينة أخرى، بالقرب من جزيرة كريت، بناءً على طلب اليونان، وأبلغت السلطات الإيطالية واليونانية.

تلقت Alarm Phone، وهي شبكة من النشطاء تحتفظ بخط مساعدة لدعم عمليات الإنقاذ، مكالمات من السفينة، تُحذر من الموقف، وقد بلّغتْ الشبكة عن ذلك. يقول أكرم: “خلال هذه الأيام كان المهرّبون الذين كانوا يديرون القارب، يتحدثون عبر الهاتف (الثريا) ويقولون إنهم طلبوا المساعدة”. بعد الظهر ظهرت ناقلة نفط كتب عليها: “ممنوع التدخين”. يتفق جميع الناجين على هذه التفاصيل. توصل تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) الذي يحلل حركة السفن، إلى أن السفينة المعنية كانت Lucky Sailor، التي ترفع العلم المالطي. طلب خفر السواحل اليوناني من السفينة الاقتراب، لتقديم الماء والطعام لقارب الصيد، الذي كان يستقلّه المهاجرون. وقد حصل ذلك فعلاً، لكن ما كان يجب أن يكون مصدراً للارتياح أصبح مشكلة.

يقول أكرم: “كنا نتحدث معهم باللغة الإنجليزية، كان هناك منّا من يتحدثها. طلبنا منهم الماء، وألقوا لنا زجاجات الماء بواسطة حبال، لكن الماء لم يكن كافياً للجميع”. يوضح حسن ويشير بيديه: “قفز العديد من الأشخاص من القارب إلى الماء، للإمساك بالحبال وربطها بقاربنا. نظراً لأن الجميع لم يأكلوا ويشربوا منذ أيام، كانت هناك مشاكل وصراخ … كان عددنا كبيراً، وبدأ الناس يفقدون الوعي”.

بعد ساعات، ظهرت سفينة أخرى – حددتها بي بي سي على أنها el Faithful Warrior، وكانت ترفع العلم اليوناني، على الرغم من اختلاف الناجين في هذه التفاصيل – ولم يعد رد الفعل على متنها كما هو. وعلى الرغم من اختلاف الناجين في هذه التفاصيل إلا أن ردة الفعل على متن السفينة كان كما هو، يتذكر أكرم: “لقد اقتربت منّا كثيراً، مما تسبب في تحرك الأمواج بشكل كبير، وكاد أن ينقلب قاربنا. أعطونا الماء والطعام، لكننا قلنا لهم لا، إن ما نحتاجه هو الإنقاذ. واصلوا الإبحار وتركونا، وكانوا يصورونا بجوالاتهم”. يكمل مصطفى: “ألقوا علينا الماء والطعام بواسطة حبال، وسقطت هذه المواد على رؤوس الناس. بدأ الجميع بالصراخ وضرب بعضهم بعضاً. قلنا لهم لا نريد الماء أو الطعام، ساعدونا، ساعدونا، لدينا موتى!”. في ذلك الوقت كان قد قبطان قارب الصيد قد مات. 

ثم انتشر الخبر على متن السفينة أن خفر السواحل اليوناني كان في طريقه إليهم. كان بعض الركّاب مرتاباً. يقول أكرم مشيراً إلى عمليات العودة الساخنة التي تمارسها اليونان على حدودها البحرية مع تركيا: “عند سماعي بأن خفر السواحل اليوناني قادم، بدأت أشعر بالخوف، لأنني أعرف ممارسات الخفر اليوناني، وشاهدت مقاطع فيديو لهم. يعيدون المهاجرين إلى تركيا، وكان الناس يعودون وعليهم آثار الضرب بل بعضهم عارياً من ثيابه، لقد رأيت ذلك بعيني”. بدأ الناس في البكاء، وأصيب العديد منهم بالخوف والرعب عندما تلقوا نبأ وصول خفر السواحل اليوناني. علاوةً على ذلك، كان الناس في ذلك الوقت يشربون بولاً ممزوجاً بمياه البحر. وكانت هناك امرأة معها طفل رضيع، ضخت الحليب من صدرها، كي تنقذ حياة أحد الركاب، يؤكد أكرم.

وصل خفر السواحل اليوناني ليلاً، وشاهد قارب الصيد من مسافة قصيرة، بل وكاد يلتصق به، بحسب الناجين. لكن رواية خفر السواحل هي أنّها عرضت المساعدة مراراً وتكراراً من خلال الاتصال الهاتفي، لكن تم رفضها. “واصل قارب الصيد مساره”، وظلت السفينة اليونانية بجانبه “لتقديم المساعدة الممكنة”. غرقت السفينة في النهاية، وبدأ خفر السواحل “على الفور” بـ “عملية بحث وإنقاذ مكثفة”. وفقاً لروايتهم.

يشكك الناجون في التسلسل السابق في رواية خفر السواحل اليوناني. ويقول مصطفى: “قالوا لنا أن نتبعهم، وبدأنا في الإبحار ورائهم. لكنهم رأوا أن سفينتنا تعطّلت بعد ذلك بقليل”. يؤكد أكرم: “عادوا إلينا وألقوا حبلاً أزرق، وربطوا القارب، وسحبوا قاربنا بواسطة الحبل بسرعة كبيرة، وانقلب قاربنا من جانبه الأيسر، ثم سحبوا بقوة في الاتجاه الآخر، ثم انقلب تماماً”. عاشها أحمد بدوره على هذا النحو: “ربطوا القارب بحبل في محاولة لسحبنا، وجروا القارب بضعة أمتار وانحرف إلى الجانب الأيسر، وفي المرة الثانية، كانت قوة السحب عالية جداً، فاستدار القارب وانقلب”.

يقول البيان الأوّليّ من خفر السواحل إن سفينتهم حافظت على مسافة في جميع الأوقات. لكن المتحدث باسم الحكومة، إلياس سياكانتاريس، اعترف لاحقًا للتلفزيون اليوناني بأن خفر السواحل استخدموا حبلاً لمحاولة تحقيق الاستقرار لهم، والاقتراب منهم ومعرفة ما إذا كانوا بحاجة إلى المساعدة، وعلى الرغم من عدم نية جرهم بأي حال من الأحوال، لكن الركاب رفضوا هذا الدعم وأرادوا الاستمرار بالإبحار، حسب الرواية الرسمية.

يقول الناجون إنه بمجرد انقلاب قارب الصيد، ابتعد خفر السواحل. يؤكد مصطفى: “لقد شاهدونا، لكنهم لم يأتوا لإنقاذنا”. يتفق العديد من الناجين على أنه خلال اللحظات الأولى رصدت سفينة حرس السواحل الموقف من مسافة بعيدة، حتى اقتربت من منطقة حطام السفينة لاحقاً. يضيف مصطفى: “لقد لفوا حولنا لفة سريعة، تسبّبتْ في أمواج كبيرة، أغرقت الكثير من الناس”. يتذكر حسن تمسكه بصديقه، وعندما مرت السفينة فرقتهم الأمواج. يذهب أكرم إلى أبعد من ذلك، ويؤكد أن تلك الأمواج ساهمت في غرق السفينة بالكامل: “لقد أغرقوا سفينتنا عمدًا لأنهم عنصريون، ولا يريدون للمهاجرين أن يأتوا إلى بلادهم. لقد ساعدوا فقط الأشخاص الذين سبحوا وتمكنوا من الوصول إلى قاربهم”. رواية الناجين الآخرين متشابهة، لكن أكرم وخالد يتهمان خفر السواحل بشكل مباشر بإغراقهم عمداً. والباقي يقتصر على وصف مشهد الحبل والالتفاف.

أرسل خفر السواحل زورق واحد من سفينته. يقول أكرم: “لم يبقَ أي جزء من قاربنا عائماً”. بالنسبة لأولئك الذين سافروا في القبو، كان من المستحيل عليهم إنقاذ أنفسهم. حاول أولئك الذين هم على ظهر السفينة القفز والسباحة. يتذكر أكرم: “بدأت السباحة وابتعدت قليلاً عن الناس لمدة عشر دقائق متتالية. رأيت أشخاصاً يغرقون، وقارب خفر السواحل الصغير يحوم حولنا. لم أقترب منهم حتى رأيتهم بدأوا بسحب الناس من الماء، فبدأت أسبح نحوهم. لقد أخرجوني من الماء”. كم كان مضى من الوقت؟ “في الوقت الذي ألقى فيه خفر السواحل الأضواء الكاشفة علينا، نظرت إلى ساعتي وكانت الساعة 2:50 صباحاً في 14 يونيو. بعد أن أخرجونا، رأيت في الساعة أنها كانت الرابعة صباحاً، وقلت لأصدقائي بقينا في الماء أكثر من ساعة”.

خالد لديه ذكريات حية ومرعبة عن حطام السفينة: “قفزت في الماء عندما أصبح جزءاً من القارب مغموراً بالمياه. اقتربت لاحقاً، عندما كان وجهه لأسفل. كنت أرى مُحركه أصبح في الأعلى. كانت هناك امرأة مع أطفال يصرخون. طلبنا المساعدة، لكن لم يجبنا أحد. استغرقوا وقتاً طويلاً لإرسال القارب الصغير (قارب الإنقاذ). عندما جاء دار حولنا. كنا نخشى الاقتراب منهم، لأنهم كانوا يقتلوننا قبل قليل، لقد اغرقونا عن قصد”.

 يقول خالد أنه رأى أكثر من خمسين جثة تطفو على الماء: “رأيت كأنهم كانوا يصلون، وأرجلهم ورؤوسهم لأسفل، وظهورهم عائمة. عندما تعبت من السباحة ، كنت أحاول الإمساك بشيء، أي شيء، وبعد ذلك أدركت أنّي أمسك بجثة، كنت خائفاً”.

أمّا أحمد فقد عاشها على هذا النحو: “قفزنا في الماء. رأيت الناس حولي يغرقون. حاولت الابتعاد حتى لا يمسكون بي ويغرقوني في محاولة أن ينقذوا أنفسهم. ابتعدت حوالي مائة متر. نظرت حولي ورأيت الجميع يطلبون المساعدة. خلعت كل ملابسي ما عدا ملابسي الداخلية لتخفيف الوزن. حتى أنني تخلصت من جواز سفري، الذي كنت غلفته جيداً حتى لا يتلف”.

“قفزنا في الماء. رأيت الناس حولي يغرقون. حاولت الابتعاد حتى لا يمسكون بي ويغرقوني في محاولة أن ينقذوا أنفسهم. ابتعدت حوالي مائة متر. نظرت حولي ورأيت الجميع يطلبون المساعدة. خلعت كل ملابسي ما عدا ملابسي الداخلية لتخفيف الوزن. حتى أنني تخلصت من جواز سفري، الذي كنت غلفته جيداً حتى لا يتلف”. ©Anna Surinyach

لا يبدو من هذه الرواية أن هناك عملية إنقاذ “واسعة” كتلك التي وصفها خفر السواحل اليوناني في بيانه. لم يكن هناك انتشار لزوارق الإنقاذ أو رمي جماعي لعوامات (دواليب) النجاة، وفقاً لجميع من تمت مقابلتهم. لم تشارك السفن التي كانت موجودة في المنطقة في عملية الإنقاذ. يقول الناجون الذين تحدثنا إليهم إنهم سبحوا إلى القارب الذي أطلقته السفينة. يوضح أحمد: “كنت سادس شخص على متن ذلك القارب، ثم نقلونا إلى القارب الكبير (سفينة خفر السواحل). صعدنا ووضعونا في منتصف القارب”. 

يقول حسن: “عندما رأيت الناس يصعدون على متن قارب كبير، هدأت قليلاً، ذهبت نحوهم. سبحت لمسافة كيلومترين أو نحو ذلك. قبل الوصول بحوالي 200 متر، جاء القارب الصغير باتجاهنا، وأخذني أنا وآخرين كانوا هناك”. وفقاً لمصطفى، فإن أولئك الذين سبحوا أكثر كانوا هم الأكثر حظاً في البقاء على قيد الحياة: “أراد الجميع إنقاذ نفسه. لقد غرّقوا بعضهم بعضاً. هربت بعيداً وصرخت طلباً للمساعدة، كما كان يصرخ الجميع. كانوا (خفر السواحل) يطلقون علينا كشافات ضوء كبيرة. شاهدونا. تركونا في الماء لكثير من الوقت. الناس الذين يعرفون السباحة، سبحوا باتجاههم”.

شوهد قارب الصيد الذي كان يحمل المهاجرين في الصباح الباكر. مرتْ أكثر من 15 ساعة قبل غرق السفينة، وكان خفر السواحل موجود هناك. حتى لو كان صحيحاً أن الذين يقودون القارب رفضوا الإنقاذ، وأرادوا الاستمرار في الرحلة إلى إيطاليا، فإن من قابلناهم وصفوا مشاكل واضحة على متن القارب؛ لم يكن مُحركه يعمل بشكل جيد، وكان هناك جثث بالفعل، وأُغمي على العديد من الأشخاص بسبب نقص الماء والغذاء. يقول أيضاً أنه كانت هناك نداءات متكررة للحصول على المساعدة. مما يجعل الإنقاذ في مثل هذه الظروف مطلوباً بموجب قانون البحار.

نجا 104 أشخاص فقط.

ما بعد غرق وتحطّم القارب

شجب بعض الناجين الذين تمت مقابلتهم المعاملة السيئة التي تلقوها على متن سفينة خفر السواحل، عندما كانوا قد أصبحوا آمنين.  يقول أحمد: “أعطونا مياه الشرب والبطانيات، لكنهم عاملونا معاملة سيئة، لم يكونوا مهتمين بنا، من بين الأشخاص الذين تم إنقاذهم كان اثنان في حالة صحية سيئة. كان أحدهم يتقيأ، وآخر كان يقضي حاجته في ثيابه (يبول)، لكن لم ينتبه أحد لهما. كنتُ مصاباً بجروح في يدي وعيني، ولم أطلب منهم سوى شيئاً يغطي الجروح، لكنهم لم يعطوني شيئاً. شعرت بالخوف، ظننتُ أنّهم يريدون أخذنا إلى مكان بعيد في البحر وإغراقنا مرّةً أخرى”. ويشرح حسن أن نفس الأشخاص الذين تم إنقاذهم هم من قدموا الإسعافات الأولية لبعضهم البعض: “لم يفعلوا شيئاً لنا”.

يقول مصطفى: “كانوا يرتدون ملابس عسكرية ويتحدثون مع بعضهم البعض ويضحكون، كنا خائفين، لم نكن نفهم ما يحصل، كنا في حالة صدمة، واعتقدنا أنهم أخرجونا من الماء لقتلنا، لفعل شيء لنا. لم نكن نعرف إلى أين نحن ذاهبون. أردنا النهوض لمعرفة ما يجري حول موقع التحطّم. لكنهم لم يسمحوا لنا، قالوا لنا إن علينا الجلوس”. 

يشرح حسن أن نفس الأشخاص الذين تم إنقاذهم هم من قدموا الإسعافات الأولية لبعضهم البعض: “لم يفعلوا شيئاً لنا”. ©Anna Surinyach

مع طلوع الفجر نقل خفر السواحل الناجين إلى اليخت الفاخر Mayan Queen IV، لنقلهم إلى الشاطئ. صعد العديد من حرس السواحل إلى اليخت ورافقوهم في الرحلة. يصرّ حسن على أن هواتف الناجين وجوازات سفرهم صودرت على ظهر هذه السفينة: “كان هناك أكثر من عشرة جوالات. كلّنا كنا نصوّر. هناك صور وفيديوهات لما حدث على هواتفنا، لكنها لم تظهر. كان على تلك الهواتف جميع مراحل الرحلة. كان هناك شخص يُجري مقابلات (على متن قارب الصيد) لتوثيق كل شيء”. وفقاً لمصطفى فقد سقط هاتفه المحمول في البحر، لكن لديه أصدقاء حافظوا على هواتفهم لأنهم كانوا قد غلّفوها بأكياس: “لقد وعدوهم بأنهم سيعيدونها إليهم عندما يصلون إلى البرّ، عند الوصول ارجعوا جوازات السفر فقط، لكن لم يرجعوا الجوالات”.

يقول أحمد: “وضعونا في زاوية السفينة، وكانت هناك كراسي لكنهم لم يسمحوا لنا بالجلوس عليها. كانوا يُجلسونا على الأرض. لقد منعونا من التحرّك، وإذا أردنا الذهاب إلى الحمام، كان هناك من يرافقنا”. كانت ساعات من الارتباك والصدمة والتفكير في الأحبّاء، يقول مصطفى: “لا أعرف كم كان عددنا، كان هناك من فقد شقيقه، وآخر أقارب له أو صديق … لم يعرف أحد مكانهم أو ما حدث لهم”.

أنزل يخت Mayan Queen IV الناجين في ميناء كالاماتا، في شبه جزيرة بيلوبونيز، صباح يوم 14 يونيو. ستبقى صورهم وهم ينزلون من السفينة الفاخرة ملفوفين ببطانيات رمزاً لعدم المساواة؛ يخت بطول 93 متراً، تملكه إحدى أغنى العائلات المكسيكية، 175 مليون دولار يُبحر من ميناء لآخر، تاركاً وراءه مئات البشر الذين دفعوا بضعة آلاف من الدولارات لعبور الحدود، مخاطرين بحياتهم في سبيل الوصول لمكان آمن.

تم نقل الناجين إلى هنغار (مستودع) في ميناء كالاماتا، حيث كان هناك فراش وضعه الناجون بأنفسهم على الأرض للراحة. يقول أكرم: “استلقيت لمدة ساعتين ثم بدأت أشعر بالألم وفقدت الوعي”. تم نقله إلى المستشفى، وهناك تلقى العلاج، ولكن لا توجد معلومات: “لم يخبروني بأي شيء على الإطلاق”. الضجة التي أحدثها غرق السفينة وصلت إلى سريره في المستشفى: “جاء أحدهم وصوّرني، وسألني عن اسمي. لا أعرف من كان، ولكنهم أخرجوه وأخبروه أنه لا يستطيع التصوير. بعد ذلك طلبت رؤية الناجين الآخرين الموجودين في المستشفى لكنهم رفضوا”. فطلب أكرم إبعاده من هناك: “نزعت الأجهزة التي كانت موضوعة عليّ، ورفضت أن آكل وأشرب، لأنني لا أريد البقاء هناك، وأريد الذهاب إلى رفاقي، ثم أخرجوني من المستشفى”. بينما كان يغادر صادف شاباً كان معهم في القارب: “أردت أن أسأله عن حاله، لكنهم لم يسمحوا لنا بالكلام”. وضعوه في سيارة وأعادوه إلى الميناء.

مكث الناجون لمدة يومين داخل الجدران في كالاماتا، في ذلك الوقت سافر أقارب وأصدقاء أولئك الذين كانوا يسافرون في القارب، من من مختلف أنحاء أوروبا لمحاولة معرفة مكان أحبابهم. في إحدى الحالات، تمكّن أحد الناجين من مقابلة شقيقه الذي جاء للبحث عنه. رأى أولئك الذين كانوا هناك كيف تعانق الشابان لفترة وجيزة من خلال القضبان، وتبادلا الكلام. ثم وصل جندي جعلهم يبتعدون. تم إجبار الناجي على العودة إلى المكان الذي كانوا محتجزين فيه، لم يتحدثوا سوى بضع ثوانٍ.

انتهجت الحكومة اليونانية الصمت سياسةً منذ البداية. بعد المعاناة على الطريق، بعد أن فقدوا أحبابهم، وبعد نضالهم للبقاء على قيد الحياة في مياه البحر المتوسط، تم حبس الناجين، ولم يتم السماح لهم حتى بالتحدث مع أفراد عائلاتهم أو أصدقائهم. كان حرّاسهم بحسب خالد مسلحين، وكانوا يصرخون كثيراً: “لم نفهم ما يقولونه، لكننا فهمنا أنه ممنوع دخول المكان أو مغادرته”.

خالد: “لم نفهم ما يقولونه، لكننا فهمنا أنه ممنوع دخول المكان أو مغادرته”. ©Anna Surinyach

في 16 يونيو – حزيران، تم نقل 86 ناجياً، بينهم خمسة قاصرين غير مصحوبين بذويهم، عبر حافلة من كالاماتا إلى العاصمة اليونانية أثينا.

إلى مخيم مالاكاسا

يقع مركز الاستقبال وتحديد الهوية في مالاكاسا على بعد حوالي 40 كم من أثينا، في قاعدة عسكرية سابقة. افتتح هذا المخيم أبوابه في عام 2016 بسعة أولية قدرها 1000 شخص. في البداية كانت بها خيام لاستقبال القادمين إلى جزر بحر إيجة. مع مرور الوقت، تم استبدال الخيام بغرف بيضاء مسبقة الصنع تُستخدم كمسكن للاجئين، لديها حالياً القدرة على استيعاب 1500 شخص.

مخيم مالاكاسا على بعد 40 كم من العاصمة اليونانية. Anna Surinyach

يقول أكرم إنه عند الوصول قابلوا طبيبة نفسية، لكنها عاملته بعدوانية، وسألته أسئلة غير مريحة: “لماذا لم تبقَ مع أمك؟ لماذا لم تبقَ في سوريا؟ طلبتُ من المترجم العربي اختصار الترجمة، ولم أرغب في مواصلة الجلسة”.

على الرغم من إخبارهم بأنه سيتم تزويدهم بما يحتاجون إليه، يتذكر أحمد أنه خلال اليومين الأولين لم يكن لديهم ملابس كافية أو رعاية طبية ولم يتلقوا سوى وجبة واحدة في اليوم: “كنت أرتدي ملابس صيفية ومرضت. شعرت بألم شديد في أذني حتى فقدت الإحساس بها. لقد أُصبت بالفطريات وطلبت دواءً ، لكنهم لم يعطوني شيئاً، وكانت هذه الإجراءات شكلاً من أشكال الإذلال والإهانة”.

يتفق العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم على أن تنظيم أوراقهم في اليونان لطلب اللجوء، لم يكن خياراً بل إجباراً وتحت التهديد بالسجن والترحيل. يقول حسن: “قلنا أنه قبل تنظيمنا في السجلات نريد أن نعرف أين أقاربنا الضحايا، أين الجثث؟ أردنا رؤيتهم قبل كل شيء. لكنهم لم يردوا علينا، ولم يخبرونا بأي شيء عنهم. قلنا لهم أن لدينا أقارباً في أوروبا، ونريد الذهاب إليهم. لكن في النهاية أجبرونا على ذلك. لقد هددونا بخيارين: إما الذهاب إلى السجن أو الترحيل إلى تركيا، إذا لم نفعل ذلك. نشعر بأننا مجبرون”.

يُلقي العديد من الناجين الذين تمّتْ مقابلتهم باللوم على السلطات اليونانية. يقول مصطفى: “هم المذنبون في هذه الكارثة، وضعنا النفسي مُدمّر، نريد الذهاب إلى عائلاتنا، لا نريد البقاء هنا”. يؤكد خالد: “نريد الذهاب إلى ألمانيا أو هولندا أو إنجلترا، أو إلى أي مكان آخر. لكن لا نريد البقاء في اليونان”. يستنكر: “لقد هربنا من بشار الأسد لأنه قتل أمهاتنا وإخواننا وسجن الناس. ووجودنا هنا يشبه البقاء في سوريا بجانب الأسد. لقد قتلونا وقتلوا أطفالنا وأقاربنا، لن نبقى هنا، في الوقت الحالي ليس بيدنا المغادرة، لكننا سنغادر”.

حددت السلطات موعداً لمقابلات اللجوء في 28 و 29 يونيو – حزيران، وبعد ذلك يمكن نقل الناجين إلى مراكز أخرى. يأسف أحمد: “لدي ثلاثة أطفال: فتاتان وصبي وزوجتي. إنهم يعيشون في الأردن. إذا بقيت هنا فلن أتمكن من رؤيتهم بعد الآن”.

يضاف إلى لوح الافتقار إلى الحرية ألم الموتى: حتى الآن، لم يتمكن الناجون من رؤية أو التعرف على أي من الجثث الـ 82 التي تم انتشالها من البحر. ولم يتمكن أي من الناجين من رؤية الجثث التي نُقلت إلى مستشفى كالاماتا، ولم يسمحوا بدخول أي شخص إلى المستشفى، ولم يكن بإمكانهم الحصول على قائمة بأسماء المحتجزين في المستشفى أو الجثث، يقول مصطفى: “أردنا أن نعرف، لكنهم قالوا لنا إنه ممنوع”. يقول الشاب إنهم رأوا بعضهم على متن القارب، وأنهم يعرفون بعضهم، ويمكنهم التعرف على الجثث. لكن لم يُسمح لهم برؤية أي منها.

يؤكد: “لن نبقى في اليونان لأنهم مسؤولون عن الضحايا، مثل نظام الأسد. نحن نطلب فقط جثث الموتى”.

قارب المهاجرين والغواصة

بعيداً عن تفاصيل غرق السفينة التي لا يمكن توضيحها إلا من خلال تحقيق مستقل ومُعمّق، فإن المأساة هي جزء من منطق يسمح بحدوث ذلك. إنه مفهوم البحر الأبيض المتوسط ​​كخندق مائي لحماية حدود القارة الأوروبية، حيث تم استبدال عمليات الإنقاذ بعمليات الاستطلاع، بقيادة وكالة حرس الحدود (فرونتكس) والمصادقة عليها من الدول؛ عمليات إرجاع ساخنة وفورية، اتفاقات مع تركيا وليبيا والمغرب، فضلاً عن تجريم المهاجرين. اضطر كلّ ذلك منظمات المساعدة الإنسانية إلى إلقاء نفسها في البحر، لإنقاذ آلاف الأشخاص – وقد واجه بعضهم مشاكل مع العدالة من أجل ذلك – لكنهم جميعاً يعلمون أنهم يضعون على الجرح العميق ضمادة صغيرة فقط. بينما غرق سفن المهاجرين شبه يومي، تشدد الحكومات سياسات الهجرة الخاصة بها، ويرى الرأي العام في البحر أشياءً أخرى، مثل انفجار الغواصة التي كانت تحمل خمسة أشخاص، في رحلة استكشافية سياحية لرؤية بقايا سفينة التيتانيك.

يقول أكرم: “سمعنا قصة الغواصة… قامت القيامة لأجلهم، ونحن 750 شخص ولم يتحرك لنا أحد”.

هذا التقرير هو نتيجة تعاون بين مجلة 5W الإسبانية ومجلة بيننا أول وسيلة إعلامية باللغتين الإسبانية والعربية أسسّها صحفيون لاجئون ومهاجرون في إسبانيا. 

كاتب

  • Ayham Al Sati

    صحفي سوري، يعيش في مدريد منذ عام 2019. مؤسس ومحرر في مجلة بيننا، متخصص في الأدب العربي من جامعة دمشق، وعمل كصحفي خلال الحرب في سوريا منذ العام 2011. Es un periodista sirio. Vive en Madrid desde el año 2019. Cofundador y editor en la revista de Baynana.es. Es especialista en Literatura Árabe por la Universidad de Damasco y trabajó como periodista durante la guerra en Siria desde el año 2011. 

En español

Apóyanos
Con tu aportación haces posible que sigamos informando

Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.

Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.

Apóyanos
ادعمنا
بمساهمتك الصغيرة تجعل من الممكن لوسائل الإعلام لدينا أن تستمر في إعداد التقارير

نود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.

تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا

ادعمنا

Ayham Al Sati

صحفي سوري، يعيش في مدريد منذ عام 2019. مؤسس ومحرر في مجلة بيننا، متخصص في الأدب العربي من جامعة دمشق، وعمل كصحفي خلال الحرب في سوريا منذ العام 2011. Es un periodista sirio. Vive en Madrid desde el año 2019. Cofundador y editor en la revista de Baynana.es. Es especialista en Literatura Árabe por la Universidad de Damasco y trabajó como periodista durante la guerra en Siria desde el año 2011. 
زر الذهاب إلى الأعلى