يُفتح باب المنزل على الموعد المحدد دون أن يُطرق الجرس. في الاستقبال ضحى الزيتي (21 عام)، مرتديةً عباءتها الفلسطينية التقليدية وتضع الكوفية على أكتافها، ترافقها والدتها التي يُغطي وجهها غمامة الحزن التي تُحاول إخفاءه بابتسامةٍ لطيفة مع الكثير من كلمات الترحيب باللهجة الفلسطينية الأصيلة. بعد المدخل يظهر الصالون الذي تفوح فيه رائحة الطعام المتسرّبة من المطبخ المُطل عليه. على الجدران مُجسم لمفتاح خشبي يرمز لمفتاح العودة الذي حمله الفلسطينيون معهم في نكبة عام 1948، يقابله العلم الفلسطيني ولوحة لشاطئ مدينة غزة، تلك المدينة التي يستمر القصف الإسرائيلي عليها منذ السابع من أكتوبر.
“من الصعب أن تستيقظ كل صباح وتقول: من الشهيد القادم من أقاربنا أم أصدقاءنا”، هكذا تقول ضحى من نفس المنزل الذي تُقيم فيه الكوركون في مدريد برفقة أسرتها المكوّنة من تسعة أفراد أربع إناث وثلاثة ذكور والأب والأم. وصلت هذه العائلة إلى مدريد منذ سبع سنوات، فارّةً من الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2006، حين تسلّمت حماس السلطة هناك.
غادرت هذه الشّابة غزة برفقة عائلتها عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها عبر معبر رفح، الذي يعاني الفلسطينيون أشد المعاناة لعبوره باتجاه مصر، وقد كلّفت ذلك الكثير من المال، تقول: “أول مرّة كنّا نغادر فيها القطاع، كل حياتنا عشناها هناك، لا يوجد عطلة صيفية نخرج فيها مثلاً، حصار مُطبق، أكبر سفر سافرناه كعائلة هو الذهاب لشاطئ غزّة”.
بعد وصول العائلة إلى مصر، أصبحت أمام خيارين إما استدانة المال والسفر إلى أوروبا أو خوض الرحلة عبر البحر، وفي النهاية قرروا استدانة المال، الذي ما زالوا يسددونه حتى اليوم. تصف ضحى الوصول لإسبانيا بأنه كان نقطة تحوّل. كانت تظن أن كلّ الأماكن كغزة؛ هناك صواريخ والناس محاصرون بشكل مستمر: “فهمت معنى الحرية لدى وصولي لهذا البلد، تستطيع الذهاب إلى أي مكان بدون خوف بدون حواجز عسكرية”. هي تدرس اليوم في جامعة كومليتنسي ضمن اختصاص بصريات وقياس بصري، بعد أن أنهت سنتين تعليم متقدّم باختصاص طب أسنان.
“نصف عائلتي قُتلت بعد 7 أكتوبر”
لا تكفّ ضحى عن مراجعة هاتفها بين الحين والآخر والقلق واضح على محياها، تقول: “لقد فقدت الاتصال مع صديقتي في شمال القطاع، وكل صباح ابعث لها رسالة وأدعو الله أن تصلها”. فقدت ضحى خالها شقيق أمها في القصف الأخير على غزة، وصديقتها التي كانت حامل، وصديقة أخرى هي وجميع أفراد عائلتها، وتواسي صديقتها الثالثة التي فقدت جميع أفراد عائلتها في غزة، وبقيت هي على قيد الحياة لأنها تسكن في الضفة الغربية، التي توتر الوضع فيها أيضاً منذ السابع من أكتوبر.
بلغ عدد القتلى في غزّة منذ ذلك التاريخ ما يزيد على 14 ألف شخص، بينهم 5300 طفل، إضافةً إلى 33 ألف جريح. فضلاً عن تضرر أكثر من 274 ألف وحدة سكنية، غالبيتها تضررت كلّيّاً، فيما هدم القصف الإسرائيلي 83 مسجداً وثلاثة كنائس، وفقاً للبيانات الأخيرة الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. الذي قال في بيانه: “الاحتلال الإسرائيلي يشنّ حرباً ضد المستشفيات في مدينة غزة وشمالها، يشمل القصف المباشر ومنع وصول العلاج والدواء والغذاء للجرحى والنازحين إليها”.
تشرح ضحى حول مَنْ فقدتْ: “لا استوعب أن أعود إلى غزّة ولا أجدهم وأن لا أجد تلك الأماكن والأشياء التي تركتها عندما غادرت، أن هذا تماماً مثل كتاب كنت تقرأ فيه وأغلقته فجأةً، ثم تعود بعد فترة إليه، تجد كلّ شيء اختلف، فكيف تستطيع استيعابه؟!”.
تقطع الحديث الأم ابتسام الزيتي المثقفة الحاصلة على ماجستير في التربية، والتي فقدت حديثاً شقيقها وفقدت اثنين غيره في حروب سابقة، وما تزال أمها وبقية أفراد عائلتها تحت الحصار والقصف في غزة: “نحن نقول اليوم فقط الحمد لله في لسا ناس عايشين منهم، اليوم لا يوجد مكان آمن في غزة، نزح بعضهم من شمال القطاع لجنوبه”. تستدرك: “أنها ليست سفر من الكوكون لساحة سول وسط مدريد، هي سفر برفقة أطفال سيراً على الأقدام لمدة أربع ساعات من الخوف، هي فقط هروب من منطقة أشد قصفاً إلى منطقة القصف فيها أقل حدّة”.
تحاول الأم أن توضح حجم الكارثة وأن فقدان شخص ليس بالأمر السهل، وخاصة أنه يترك وراءه زوجة وأطفال، وتؤكد أن زوجة شقيقها الذي قُتل في القصف، خافت وغادرت إلى مدرسة اعتقاداً منها أنها أكثر آماناً إلا أنه بعد لحظات من دخولهم، استهدفتها إسرائيل، وهي كانت في أحد الصفوف الذي لم يطله القصف، “لقد نجتْ”.
يصل الأب هيثم الزيتي إلى الجلسة، يبلغ من العمر 47 عاماً، هو أيضاً يحمل شهادة عليا في التربية كزوجته، يحاول بيأس أن يتصل بمن بقي من أقاربه، “لم نعد نسأل من قُتل، نسأل فقط: من بقي على قيد الحياة من عائلاتنا؟”. الاتصالات والانترنت شبه مقطوعة بشكل دائم هو يحاول الاتصال عن طريق الخطوط الدولية إلا أن المجيب الآلي يردّ باللغة العربية: “فُقد الاتصال بقطاع غزة الحبيب نتيجة العدوان المتواصل، حمى الله غزةَ وأهلها”. العائلة منذ يومين تتلقى هذا الردّ.
يؤكد الأب: “نصف عائلتي قُتلت بعد 7 أكتوبر، منازل بأكملها مُسحت من الأرض، هذه المباني ليست حجارة فقط، فيها أصحابها وذكرياتهم ومعارفهم”. يوضح لم يبقَ هناك أي من مقومات الحياة لا كهرباء ولا أي شيء، الدمار في كل مكان والأشلاء في كل مكان والدماء في كل مكان. قُتل ابن عمه قبل أيام قليلة، لكنه بقي تحت الأنقاض من أكثر من أربعة أيام، وطفله الذي كان معه طار في الهواء إلى الحي المجاور من شدة الضغط. يتابع: “على الأقل وجدوا جثة الطفل ودفنوه. إذا أُصيب أحد أهون المهم أن يبقى على قيد الحياة”.
حالة طوارئ ونشاط
منذ السابع من أكتوبر رفعت عائلة الزيتي في مدريد حالة الطوارئ. يستيقظ الأب وأول ما يفلعه هو تصفح التلغرام لمعرفة آخر الأخبار في مسقط رأسه، ثم محاولة الاتصال بذويه، أما الأم فتحاول قضاء الوقت في مجموعات إسبانية على واتساب متعاطفين مع القضية الفلسطينية، وبقية أفراد العائلة يبذلون كلٌّ من مكانه جهودهم في محاولة التوعية بحقوق الشعب الفلسطيني.
امتلأت العديد من وسائل الإعلام الإسبانية بصورة ضحى في المظاهرات التي خرجت في مدريد، حيث كانت ترتدي الثوب الفلسطيني والكوفية، وعلى وجهها رسم لخارطة فلسطين، رسمها والدها، الذي يعمل في التطريز والرسم وله لوحات متعددة في المنزل. شاركت هذه الشابّة في أغلب المظاهرات في مدريد، وتكون دائماً في المقدّمة، تقول: “أيّ شيء يتعلّق بفلسطين من واجبنا أن نكون على رأسه، وهناك تفاعل كبير من الناس معنا لأننا من غزة”.
شاركت ضحى في العديد من الورشات والعروض حول الدفاع عن فلسطين، وتقدّم ذلك من خلال قصتها الشخصية وفقدانها أقارب في الحرب الأخيرة، ومن خلال توضيح ما يحدث هناك، وشاركت في عشاء تم تنظيمه لأجل غزة، وعائداته كانت لمساعدة الناس هناك، تشعر بالفخر لفعل هذا، وفي بعض الأحيان بالذنب لأنه لا تستطيع فعل المزيد.
تتابع الشابّة دراستها الجامعية، وتجد في ذلك أنه أيضاً طريقة للدفاع عن بلدها، لكنها تعاني من أن الأفكار السلبية تسيطر عليها في بعض الأحيان، خاصة عند عدم استطاعتها الوصول إلى الأخبار عن أقاربها، توضح: “أحيان لا نعرف هل هم أحياء أم أموات تحت منازلهم، أم أنهم يطلبون المساعدة ولا أحد يسعفهم”. بقيت ضحى لأكثر من أسبوعين عند بدء الحرب أمام جهاز الحاسوب الخاص بها، ولا تستطيع الدراسة، وعند شرحها ذلك، تلقت تعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي، “هذه حجة كي لا تدرسي”. يزعجها ذلك جداً.
أما الموقف الإسباني من القضية الفلسطينية فهو موقف نقاش لدى هذه العائلة، تقول ضحى: “الموقف الإسباني لا يختلف عن العربي وغيرهم، هم فقط يكتفون بالحديث والإدانة”، ترد الأم: “هناك وزيرة إسبانية تعاطفت مع غزة، وغيرها الكثير من السياسيين”. أما ضحى فتعود للرأي السابق فاقدةً الأمل: “الشعب الإسباني معنا نعم، ولكن السياسين لن يخرج منهم شيء، لأنهم يبحثون عن مصالحهم. الحل من عند الله”.
En español
Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.
Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.
Apóyanosنود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.
تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا
ادعمنا