
استيقظ تيسير الغزالي، اللاجئ السوري في شرق ألمانيا، صباح الرابع عشر من حزيران / يونيو 2023 على نبأ غير مُنتظرٍ: سفينة “أدريانا” التي كانت تُقلّ شقيقه وأربعة من أقاربه، إلى جانب 750 مهاجراً آخرين من جنسيات متعددة، غرقت في عرض البحر قبالة سواحل بيلوس اليونانية.
لم تمضِ 24 ساعة حتى كان الغزالي، البالغ من العمر 40 عاماً، قد حطّ رحاله في أثينا، آملاً أن يكون أقاربه ما زالوا على قيد الحياة. كان عشرات العائلات يتجولون بلا هدف حول المستشفيات ومراكز الشرطة. وبين صمت وتجوّل في شوارع مدينة لا يعرفونها، كانوا يتلقون مئات المكالمات للاستفسار عن مصير ركّاب السفينة الآخرين، ويتصلون بلا جدوى بأرقام لا يجيب عليها سوى متحدثين باللغة اليونانية.
بفضل مجموعات واتساب أنشأتها عائلات الغرقى —والكثير منهم من محافظة درعا، في جنوب سوريا، وهي منطقة تجمعهم روابط ولهجة مشتركة تسهل عليهم التعارف— تعرّف هناك على عدي الطلب، وهو صحفي وناشط سوري كان من أوائل من وصلوا للبحث عن اثنين من إخوته؛ ونشط بشكل كبير حينها، على وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعله ركناً أساسياً في جهود البحث.
علما بعدها أن خفر السواحل اليوناني نقل الناجين إلى جزيرة مالاكاسا، شمال غرب العاصمة. لم يترددا لحظةً، وتوجها إلى معسكر احتجاز لم يفتح أبوابه حتى في ظل مأساة بحجم غرق سفينة بيلوس. ومن خلف الأسلاك الشائكة، تمكن تيسير الغزالي في ذلك اليوم من التواصل مع بعض الناجين.
—هل كان شوق معكم على القارب؟ وأخي محمد نور؟ وأحمد؟ ميلاد؟ ومأمون الحراكي؟
فأجابه أحدهم:
—نعم، كانوا معنا، 100%.
—وماذا حدث بعد ذلك؟
—قبل انقلاب السفينة بحوالي ربع ساعة، قالت لي شوق: “أنا عطشان. نفسي أشرب. كان لنا ستة أيام بلا ماء. كانوا يعطونا فقط ماء البحر ممزوجاً بالتمر.
تمالك الغزالي نفسه بصعوبة بعد معرفته بأن أقاربه قضوا أياماً كاملة دون شرب ماء حطّمت قلبه. تنقل من ناجٍ إلى آخر، يبحث عن إشارة، عن تأكيد، عن أي شيء. ثم سألهم: هل رأيتموهم بعد ذلك؟
—كانت ليل لما انقلبت السفينة، لم يعد أحد يرى أحداً.
—كنا جميعاً عطشى وتعبانين.
وأصر الغزالي بصوت مكسور:
—مؤكد أنكم لم تروا أحداً من الذين ذكرتهم؟
—بعدها، لا.
ولم يستطع إلا أن يقول:
—نحن معكم، إن شاء الله…
كان عدي الطلب محظوظاً أكثر من تيسير، وسط هذه المأساة العظيمة، حيث نجا أحد إخوته من الغرق، وسُمح له أن يكلّمه لدقائق معدودة فقط، قبل أن يُفصل بينهما قسراً، لكن ذلك كان كافياً لكي يتأكد أن شقيقهما الآخر قد فقد حياته في البحر.
في تلك اللحظة، لم يعد هناك سوى شيء واحد، تردد في ذهن عدي وتيسر: “نحن الآن نبحث عن جثث ولا شيء غير ذلك، لكن أين هي؟ ابتلعها البحر، أم أُلقيت على شاطئ جزيرةٍ ما أو انتهى بها المطاف في ثلاجة في أحد المشافي؟”.
شرعا عندها وبرفقتهما عشرات العائلات الأخرى، بخوض سباقٍ بيروقراطيٍّ بلا بوصلة ولا خارطة، بينما كانت جثّة شقيق تيسير، ترقدُ في مقبرةٍ في اليونان: مُرقّمةً، محجوزةً، مجمّدةً في برّاد شحنٍ للخضروات، اتضح أنّ التبريد لم يكن كافياً لحفظها.
نظام من الفوضى
يُعدّ غرق سفينة “أدريانا” قرب سواحل بيلوس اليونانية واحدةً من أسوأ الكوارث التي وقعت في البحر المتوسط. توجهت في ذلك الوقت مجلة بيننا، والتي أسّسها صحفيون لاجئون سوريون ومجلة “5W الإسبانية”، ونشرتا تحقيقاً مطوّلاً حول ما حصل من بداية تلك الرحلة على لسان الناجين، حيث أبحرت سفينة الصيد من ليبيا، وكان بعض الركاب قد احتُجزوا وتعرضوا للتعذيب لعدة أشهر على يد ميليشيات محلية هناك، وكانت الوجهة أولاً إيطاليا. في تلك الأثناء ظلت السفينة طريقها، ونفد الماء والطعام خلال أول يومين من الرحلة. تمّت مراقبتهم بل وتصويرهم لساعات من قبل طائرات فرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل)، والتقوا على الأقل بسفينة تجارية واحدة، لكن لم يتم إنقاذهم.
كانت السفينة تحمل جثثاً على متنها حين وصلت إلى المياه اليونانية، حيث انقلبت أثناء محاولة إنقاذ غامضة نفذها مركب لخفر السواحل اليونانية، حيث حاول سحب السفينة التي كانت تكاد تنقلب. وبحسب الناجين، لم ينقذهم خفر السواحل بل ساهم بإغراقهم، وهو ما أُعلن عنه خلال الفترة القريبة الماضية، حيث تم إحالة عدد من خفر السواحل إلى القضاء اليوناني بتهمة التباطؤ في عملية الإنقاذ، بينما كانت مئات الأرواح تغرق في البحر.
في الأيام التالية، كشفت السلطات اليونانية عن حجم الكارثة: كان على متن السفينة 750 مهاجراً، غرق منهم 648، و563 آخرين اختفوا دون أن يتركوا أثراً، بينما لم ينجُ إلا 104 مهاجرين. أما الجثث فقد استخرج خفر السواحل اليونانية فقط 83، لم يتم تحديد هوية 11 منها، وعلى الرغم من مرور أكثر من سنة، حيث دُفنتْ بعد 15 شهراً، بعد أن كادت تتحلل، ولم يتمكن ذووهم من حضور دفنهم ولا إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهم.
في هذا التحقيق، تابعنا ما خاضه تيسير وعائلات أخرى من أحداث ملحمية، منذ اللحظة الأولى لتلقي خبر الغرق وصولاً إلى الدفن: سفر بأسعار باهظة تفوق قدرات الأهالي، أخذ عينات الحمض النووي، انتظار شهور بلا رد، تواصلٌ محدود مع سلطات يصفونها أنها لا تشرح ولا توضح، ثمّ عروض دفنٍ لا تليق ولا تتناسب مع الثقافة والمعتقدات. وعلى الرغم من تطبيق اليونان لبروتوكول دوليٍّ استثنائي لتحديد هوية الجثث، إلا إنها لم تتعامل مع الضحايا كما يُفترض بدولة قانون وعضو في الاتحاد الأوروبي.

يعتبر التعرّف على الجثث هو جزء من عملية كبيرة ومعقّدة، بعد وقوع حادث غرق سفينة، لأن هناك العديد من الجهات المعنية، وأول من يتدخل عادةً هو خفر السواحل، لأن الحادث يقع في البحر. بعد انتشال الجثث، تُنقل إلى المستشفيات المحلية، وهناك السلطات تطلب من الطبيب الشرعي إجراء تشريح للجثة لتحديد سبب الوفاة، وبعدها تبدأ محاولة تحديد هوية الجثة. وإذا لم تُعرَف هويتها، يُباشر إجراء مختلف وخاصّ للتعامل مع “جثة غير معروفة”، تُودع في غرفة تبريد في مكان ما، بإشراف النيابة العامة، وهنا بالذات، تفقد الأمور مسارها وتبدأ عملية طويلة قد تمتد لأشهر.
في اليونان، وكما هو الحال في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، لا تعمل كل المؤسسات وفق قواعد موحدة، وبعضها لا تملك الموارد أو الكوادر الكافية للتعامل مع أوضاع طارئة، وما يطفو على السطح هو غياب القيادة الموحدة والإرادة السياسية الواضحة في وقت الكوارث.
يرى ذلك الطبيب الشرعي كوستاس كوفاريس على طاولة التشريح بشكل متكرر، يقول من مكتبه في دائرة الطب الشرعي، وسط العاصمة اليونانية، وتتبع هذه الهيئة الحكومية بشكل مباشر لوزارة العدل: “حين يصيح الديكة كثيراً، لا يطلع الفجر بشكل صحيح”، بهذه العبارة اليونانية الشعبية يلخّص مأزق التعامل مع الكوارث الجماعية بما فيها حوادث غرق السفن على السواحل اليونانية.
يتابع الطبيب الذي أشرف شخصياً على تشريح ما يقارب 40 جثة في حادثة سفينة بيلوس: “خفر السواحل مسؤول، والشرطة مسؤولة، والوزارة مسؤولة، والإدارة المحلية مسؤولة — لكن من الذي يملك القرار؟ من له السلطة فعلياً؟”.
تفتقر اليونان إلى هيئة مركزية موحدة للأطباء الشرعيين، الذين يُقدّر عددهم بـ45 طبيباً موزعين على 27 موقعاً، يعملون في وزارات مختلفة كالصحة والتعليم والعدل، وبسبب هذه الأنظمة المتشرذمة، فإن كل وزارة لديها جزء من العمل فقط، مما يتسبّب في أن تكون أشكال تقديم الخدمات متنوعة ومتعددة.

ومن أمثلة التحديات الملحوظة بسبب هذا الخلل، ما يحدث في جزيرة ليسبوس، يُصدر خفر السواحل اليوناني رقماً لكل جثة، بينما يُصدر الطبيب الشرعي رقماً آخر مختلفاً لنفس حالات المهاجرين المتوفين، مما يضاعف الفوضى ويُعقّد عملية التوثيق والتعرّف على الضحايا.
يشرح الطبيب كوستاس كوفاريس أن كل حادثة غرق تتغيّر فيها الإجراءات، من جزيرة يونانية إلى أخرى، ومن نائبٍ عامٍ إلى آخر، يقول متحسراً: “في كل كارثة، نتبع طريقة مختلفة. لا أعلم لماذا! ربما لأن شخصاً ما أكثر نفوذاً من الآخر”.
يضيف: “يجب أن نعمل رغم كل هذه العقبات والتشويشات، والأهم من كل ذلك: يجب أن يحصل كل شخص على كفن أو تابوت يحتوي على قريبه الحقيقي”.
إجراءات لا تُطبّق دائماً
رغم وجودها، لا تُطبَّق البروتوكولات دائماً، ولم تعتمدها اليونان ضمن استجابتها الفورية للكوارث، إلا أن هذه الإجراءات قائمة منذ زمن. فالإجراء المعتمد دولياً منذ العام 1984، والذي يُوصى باستخدامه ولكن بشكل غير إلزامي، هو بروتوكول الانتربول الدولي لتحديد هوية ضحايا الكوارث (DVI)، إثر الحوادث الجماعية، سواء كانت ناجمة عن كوارث طبيعية أو من صنع الإنسان. يتبع هذا النظام بروتوكولات لضمان تحديد هوية الضحايا.
يوضح جان بيكر، الأنثروبولوجي الشرعي ومؤسس المبادرة الجنائية للمهاجرين المفقودين أن أكبر مشكلة يواجهونها هي أن المعلومات لا تُجمع بطريقة موحدة: “عبارة عن استمارة يجب تعبئتها عند وجود جثة مجهولة الهوية. يتم استخدام بروتوكول الانتربول إذا كان هناك تحطم طائرة مثلاً. أما في حالة المهاجرين – غرق قوارب – فغالباً ما تكون الأمور مختلفة من مكان لآخر، قد تُطبق الإجراءات، وقد لا تُطبق، حتى أن البعض يأخذ صوراً، وآخر لا يوثق شيئاً على الإطلاق، بعضهم يُدخل البيانات في قاعدة معلومات مشتركة، والبعض الآخر لا يفعل، ربما لتوفير الوقت أو الإهمال، أو ببساطة لأن أحداً لم يطلب منهم ذلك. لأنهم فقط ينفذون الأوامر”.
يشرح بأن تلك البيانات، يجب أن تتجاوز الحدود الجغرافية، لا يحدث هذا لأن الرسالة لم تُنقل بوضوح: أن جمع هذه البيانات ليس خياراً بل واجباً. ويتابع: “نحن بحاجة إلى طريقة أبسط لتبادل المعلومات بين الدول المختلفة، سواء للإبلاغ عن شخص مفقود أو لمتابعة الإجراءات في البلد الذي تقيم فيه أسرته. الأمر لا يتعلق بأوروبا وحدها، بل يجب أن يتعداها، لأن العديد من العائلات تعيش في سوريا ولبنان أو في مخيمات اللاجئين في الشرق الأوسط وأفريقيا”.
تتعدد وجهات نظر الخبراء والعاملين في الميدان في مثل هذه الأوضاع المعقّدة، ولكنها تتكامل فيما بينها. من جهته بابلو بافليديس، طبيب شرعي يوناني بارز، كرّس أكثر من عقدين من حياته لتشريح جثث المهاجرين مجهولي الهوية، بهدف تحديد هوياتهم وتقديم إجابات لعائلاتهم، يرى أن بروتوكولات الانتربول غير مهمة كثيراً في حالته، لأن الجثث تكون شبه متحللة عندما تصل إلى طاولة التشريح في مختبره.
يعمل الطبيب بافليديس في مدينة ألكساندروبوليس في منطقة إفروس شمال شرق اليونان على الحدود مع تركيا، وهي منطقة تظهر فيها الجثث بعد فترات طويلة من غرقها، وغالباً تكون بحالة سيئة، ودون أي إمكانية للتعرف البصري عليها. ولذلك ابتكر بروتوكولاً خاصّاً به، وفيه خطواتٌ كثيرة، ولكنه لا يركّز على أخذ عيناتٍ من الحمض النووي فقط بل على الأغراض الشخصية أيضاً، ويؤكد أنه يقدّم جميع معلوماته إلى الشرطة اليونانية. يشدد من مكتبه في مستشفى ألكساندروبوليس الجامعي الكبير، القريب من مياه نهر إفروس الباردة، حيث فقد المئات من المهاجرين حياتهم هناك: “بالنسبة لي، الأغراض الشخصية مهمة جداً جداً”.
يستطرد أنه في حال وجود خاتم مع الجثة، ويتم الاحتفاظ به، تكون هذه الخطوة هي الأولى للتنبؤ، والاتصال الأوّل. فإذا تطابق الخاتم وتوفر تحليل الحمض النووي من الجثة ومن الأقارب يمكن عندها التوصّل إلى تحديد الهوية.

وفقاً لما يراه الطبيب كوستاس كوفاريس، فإنّ حادثة بيلوس — التي غرق فيها أقارب كل من تيسير الغزالي وعدي الطلب — تعتبر استثناءً، حيث تم تفعيل بروتوكول DVI (وحدة التعرف على ضحايا الكوارث)، هو مَنْ تولّى معالجة البيانات، مع مدّعٍ عام واحد خلف ذلك مما أتاح تطبيق بروتوكول الإنتربول منذ البداية، وبشكل منظم نسبيًا.
بعد تفتيش المنطقة وجمع الجثث، تم جمع البيانات المتاحة عن كل ضحية: بصمات الأصابع، والسمات الجسدية المميزة مثل الوشوم والندوب والأسنان. وكان الهدف مطابقة هذه البيانات مع المعلومات التي قدمتها عائلات الضحايا، لتحديد هوية الجثث. وقد كان كوستاس الذي يُفضل العمل بيده، جزءاً من هذه الوحدة، لذلك تطوع وقام بنفسه بنصف عمليات التشريح للجثث الـ 83 التي تم انتشالها من حادثة غرق سفينة بيلوس، وجمع جميع البيانات، ويعتقد أن ما تم القيام به جيداً، إلا أنه يؤكد صعوبة تسميته “نجاحاً”، لكنها “عملية تعريف جيدة جداً. بقدر ما يمكننا الوصول إليه، تقريباً. لكنها كانت متميزة على الرغم من تأخير إحضار الجثث، ورغم أن الجثث كانت متحللة أكثر قليلاً”.
أما الأنثروبولوجي جان بيكر الذي أجرى تشريح لبعض تلك الجثث أيضاً، فيرى أنه في حالة غرق سفينة بيلوس، وُظّفت موارد بشرية ضخمة من أجل تسريع العملية، ويرجع ذلك إلى الضغط الدبلوماسي، حيث أُجريت عمليات تشريح كاملة للجثث. وهذا مستوى من التفصيل نادراً ما نراه في الحالات الأخرى.
بفضل تطبيق DVI استطاعت 72عائلة من دفن أبنائها، من أصل 83 جثة تم انتشالها. وكان من بينهم عدي الطلب الذي تمكّن من التعرّف على جثة شقيقه رياض، حيث تلقى عدي بريداً إلكترونياً من وحدة تحديد هوية الضحايا، يشير إلى أنه تم العثور على جثة شقيقه بعد مطابقة عينات الحمض النووي التي قدّمها سابقاً. لكن حتى عند هذه النقطة، لم تنتهِ معاناته، فالاجراءات البيروقراطية اليونانية كانت تُخفي مزيداً من العقبات: أخبروه بأنه ينبغي عليه التنسيق مع سفارة النظام السوري، الأمر الذي رفضه عدي، موضحاً: “من المستحيل أن أتواصل مع النظام السوري الذي كان السبب في وصولنا إلى هذه المأساة”.

في نهاية الأمر، حجز عدي تذكرة وعاد للسفر مجدداً إلى أثينا. هناك، علم عبر مكتب دفن الموتى أن جثث ضحايا بيلوس محفوظة في برادات مُخصّصة للخضروات في مقبرة سيستو في منطقة بيراما أحد ضواحي العاصمة أثينا، تقع جنوب غرب على مسافة 12 كيلو متر من وسط المدينة.
الوداع الأخير
كان لا يزال تيسير الغزالي ينتظر، وسينتظر عاماً كاملاً. بينما كانت جثّة شقيقه التي لن يراها أبداً، ترقدُ هناك، في مقبرةٍ في اليونان: مُرقّمةً، محجوزةً، مجمّدةً في برّاد شحنٍ للخضروات، اتضح أنّ التبريد لم يكن كافياً لحفظها.
بعد تقديم عينته الأولى في أثينا، انتظر الغزالي شهوراً. ستة أشهر مرّت دون أن يتلقى رسالة إلكترونية واحدة، ولا حتى اتصالاً هاتفياً من السلطات اليونانية. أرسل عدة استفسارات عبر البريد، لكنها بقيت دون ردّ. بدأ يشكّ ربّما أنّ العينة ضاعت أو أن النظام بأكمله تعطّل دون أن يبلغه أحد. لم تكن مشكلة تيسير الوحيدة في التأخير، بل في فهم أساسيات النظام نفسه: لماذا تأخذ الأمور كل هذا الوقت؟ وما مصير جثة شقيقه وبقية أقاربه؟
مع تزايد الانتظار والخذلان، وعن طريق التواصل من عائلة لأخرى، ماذا حدث معك؟ وأنت ماذا حدث معك؟ مع كثرة هذه الأسئلة والتواصل، بدأ يدرك أن التحليل الذي قدّمه ليس كافياً، وأن عليه إيجاد حلّ آخر. هكذا عرف أن تحليل الحمض النووي عن طريق الأب أو الأم أو الابن أكثر دقة منه كأخ. ما أدخله في دوامة جديدة لستّة أشهر أخرى، وأكثر تكلفةً ماديةً وتعقيداً بيروقراطياً غير واضح المعالم. يساعده فيها أقاربه في الأردن وسوريا وألمانيا.
في هذه الأثناء كانت العديد من العائلات داخل سوريا وبينهم والدي الغزالي وابنة شقيقه الذين هم الأقرب لتقديم عينات. خطط مع أقاربه لإرسال وحدات جمع العينات من ألمانيا إلى الأردن، ومن هناك إلى سوريا. لكن العملية كانت محفوفة بالعراقيل: “اتضح أن إرسال ممنوعات أسهل من إرسال علب لتحليل DNA”. احتاج إرسال العلب إلى موافقات أمنية وتعقيدات كان تجاوزها شبه مستحيل، فكان الحل الوحيد أن يتمكن من يسافر من سوريا إلى الأردن لتقديم العينات هناك.
استطاعت أم تيسير وابنة شقيقه أخيراً تقديم تلك العينات بعد أن سافرتا إلى الأردن بينما لم تتمكن العديد من العائلات الأخرى من هذا السفر لصعوبته لوجستياً ومالياً ومعنوياً: بعضهم لم يكن قادراً على السفر، ومنهم ممنوعٌ أصلاً من دخول الأردن بسبب خروج سابق وعودة إلى سوريا. كذلك إحدى الأمهات رفضت ترك أطفالها الأربعة خلفها للسفر بمفردها، بعدما فقدت ابنها في الغرق: “أتركهم لأفقدهم جميعاً؟”. عائلات أخرى رفضت فكرة تقديم العينات أصلاً لأنها كانت في حالة إنكار تام للكارثة، حتى أنهم رفضوا قبول العزاء متشبثين بخيط وهم من الأمل أن يكون أبناءهم على قيد الحياة على الرغم من تأكيد الناجين عكس ذلك.
كان إصرار الغزالي وعائلته على إخراج جثة أخيه من البرادات ومواراتها التراب دافعاً كبيراً للمتابعة، احتاجوا إلى صبر وإصرار استثنائيين، لولاهما لما تمكنوا من الاستمرار. أخيراً وبعد ستّة أشهر أخرى – أي قرابة عامٍ كاملٍ – جاء الاتصال المُنتظر من الصليب الأحمر إلى أحد أشقاء الغزالي اللاجئ في الأردن، يؤكد له أنه تم تحديد هوية جثمان أخيه، ويعرض عليهم خيارات للدفن عبر الصليب الأحمر اليوناني: “الحرق، أو إرساله إلى سوريا، أو دفنه في مقبرة مسيحية”. بلا تردّد: “كل هذه الخيارات لا تناسبنا. نحن ندفن موتانا في مقبرة إسلامية”.

يوضح الإمام عبد الرحيم محمد، المشرف على عمليات دفن المسلمين في اليونان حول إجراءات الدفن، أن الجثامين في مثل هذه الحالات تُعامل ضمن “ملف الغرقى”، وتتطلب سلسلة طويلة من التنسيق والموافقات. وخاصة في حالة السوريين، فإنّ المسافة والحرب وارتفاع تكاليف الدفن تجعل من الصعب على معظم العائلات أن تتعرّف على ذويها وتمارس حقها الطبيعي في توديع أحبابها.
بعد الانتظار الذي استهلك القوى، وصل عدي الطلب أخيراً إلى اللحظة الأصعب: استلام جثة شقيقه رياض. كان ممزقاً بين الشكّ والرجاء، وصل في الموعد المحدد إلى باب مقبرة شيستو، حيث كانت الجثث محفوظة. وكان المكان المقرر لدفن الجثمان هو المقبرة الإسلامية في ضواحي مدينة كوموتيني، في شمال شرق اليونان على الحدود التركية.
تتولى وزارة الداخلية ومكتب دفن موتى المسلمين في اليونان هذه العملية، ويخشى الأخير دائماً أن تخرج البيروقراطية عن السيطرة، فتعطّل أيّ وثيقة نقل الجثمان من شيستو إلى كوموتيني الإسلامية للدفن. وأثناء ساعات الانتظار الطويلة أمام أبواب المقبرة، قرر عدي الطلب زيارة مخيم اللاجئين في مالاكاسا ليجد بعض العزاء إلى جانب شقيقه الناجي من الغرق، الذي ما زال محتجزاً هناك. كان من المهم لهما أن يكونا معاً.
بعدها، اتصل مسؤول مكتب الدفن ووصلت الموافقة.
كانت المقبرة ساكنة وشبه فارغة، لولا أنه كسر الصمت ظهور فريق من جهاز الشرطة اليونانية، سألوا عن الأسماء، وتحققوا من الوثائق وسمحوا فقط لثلاثة منهم بالدخول. وقبل بدء إجراءات التسليم، وصل ضابط بزي رسمي، بدا أن لديه رتبة عالية، وبينما كان يقودهم إلى القبو الذي تُخزّن فيه الجثث قبل الدفن، بدأ بشتمهم بدون مبرر واضح، قبو يُفترض أن لا تمكث فيه الجثث أكثر من دقائق، أو ساعات قليلة، لكنها تمكث فيه فعلياً فترات أطول من ذلك بكثير.
بحسب ميخاليس لوناس مدير تلك المقبرة، يفترض أن تُدفن الجثث خلال أربعين يوماً فقط، إذا لم يُعثر على أقارب لها، لكن الأمر يختلف مع جثث المهاجرين وتكون المدة أطول بكثير، لأن تحديد هويتهم صعب، ويجب البحث والتعاون مع دول أخرى. وغالباً ما يُطيل الأطباء الشرعيون فترة حفظ الجثث في حاويات التبريد، أملاً في التمكن من التعرّف عليها وتسليمها لعائلاتهم.
يوضح لوناس أن استقبال هذا العدد الكبير من الجثث بعد كارثة بيلوس تخطى قدرات المقبرة المحدودة: “نحن نتلقى الأوامر من وزارة الهجرة واللجوء، وهي قدّرت أن لدينا القدرة على استقبال هذا العدد الكبير من الجثث. كان من الصعب علينا استلام هذا العدد الكبير، لأن المقبرة ليست مجهزة لاستيعاب هذا الكم. فقط تخيلوا أن الجثث عندما تغادر من هنا تكون متحللة. تكون في حالة سيئة للغاية بعد مرور عام”.
يصف عدي الطلب مشهد استلام جثة أخيه برفقة عائلتين معه، بأنه كان في غاية الصعوبة لأن الجثث بلا ملامح: “إحدى الجثث كان يبدو أن التبريد لم يصلها، ولم نكن متيقين من هويتها”. جثة شقيق عدي كانت بحالة جيدة نسبياً، وتمكن من التعرّف عليه وإلقاء نظرة وداع أخيرة، لكنه لم يتمكن من تغسيله كما ينبغي لأنهم كانوا بأكياس مليئة بماء البحر والأملاح.
بالنسبة لتيسير الغزالي تحقق ذلك بعد عامٍ كاملٍ وإجراءاتٍ طويلةٍ أنهكت الشاب وعائلته. عندما جاء موعد تسليم رفات شقيقه، نصحه حينها عدي: “من الأفضل عدم إلقاء النظرة الأخيرة، لأن بياض الجثة تحوّل إلى السواد”. استمع الغزالي للنصيحة، وقرر ألا يسافر إلى اليونان والاكتفاء بالتنسيق مع مسؤول مكتب الدفن، ومنذ ذلك الحين، يطارده الهاجس: “دُفنت جثة أخي دون أن أراه، ودون أن تتحقق العدالة له ولمن كان معه”.

تم إعداد هذا التحقيق بدعم من صندوق الصحافة الأوروبية

Nos gustaría pedirte una cosa… personas como tú hacen que Baynana, que forma parte de la Fundación porCausa, se acerque cada día a su objetivo de convertirse en el medio referencia sobre migración en España. Creemos en el periodismo hecho por migrantes para migrantes y de servicio público, por eso ofrecemos nuestro contenido siempre en abierto, sin importar donde vivan nuestros lectores o cuánto dinero tengan. Baynana se compromete a dar voz a los que son silenciados y llenar vacíos de información que las instituciones y las ONG no cubren. En un mundo donde la migración se utiliza como un arma arrojadiza para ganar votos, creemos que son los propios migrantes los que tienen que contar su historia, sin paternalismos ni xenofobia.
Tu contribución garantiza nuestra independencia editorial libre de la influencia de empresas y bandos políticos. En definitiva, periodismo de calidad capaz de dar la cara frente a los poderosos y tender puentes entre refugiados, migrantes y el resto de la población. Todo aporte, por pequeño que sea, marca la diferencia. Apoya a Baynana desde tan solo 1 euro, sólo te llevará un minuto. Muchas gracias.
Apóyanosنود أن نسألك شيئًا واحدًا ... أشخاص مثلك يجعلون Baynana ، التي هي جزء من Fundación porCausa ، تقترب كل يوم من هدفها المتمثل في أن تصبح وسيلة الإعلام الرائدة في مجال الهجرة في إسبانيا. نحن نؤمن بالصحافة التي يصنعها المهاجرون من أجل المهاجرين والخدمة العامة ، ولهذا السبب نقدم دائمًا المحتوى الخاص بنا بشكل علني ، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه القراء أو مقدار الأموال التي لديهم. تلتزم Baynana بإعطاء صوت لأولئك الذين تم إسكاتهم وسد فجوات المعلومات التي لا تغطيها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. في عالم تُستخدم فيه الهجرة كسلاح رمي لكسب الأصوات ، نعتقد أن المهاجرين أنفسهم هم من يتعين عليهم سرد قصتهم ، دون الأبوة أو كراهية الأجانب.
تضمن مساهمتك استقلالنا التحريري الخالي من تأثير الشركات والفصائل السياسية. باختصار ، الصحافة الجيدة قادرة على مواجهة الأقوياء وبناء الجسور بين اللاجئين والمهاجرين وبقية السكان. كل مساهمة ، مهما كانت صغيرة ، تحدث فرقًا. ادعم Baynana من 1 يورو فقط ، ولن يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة. شكرا جزيلا
ادعمنا